كان بودي اليوم أن أكتب عن عملية أم الفحم، التي سماها الإسرائيليون ليلة المناجل، ذلك، لأن هذه العملية ذكرتنا بأخبار سنوات خلت، وبعبارات لم نعد نسمعها الآن في إذاعاتنا، من نوع «عملية فدائية» و«شن الفدائيون عملية جريئة» و«عادت المجموعة إلى قواعدها سالمة». وغير ذلك من الجمل الحلوة التي أصبحت الآن في خبر كان ومن ذكريات سالف العصر والأوان. غير أن قراء هذه الأيام، يفضلون الأخبار الطريفة، ويتمنون على الكاتب أن يسليهم أكثر من أن يضجرهم، وعندهم، أن الكاتب مثل المغنية أو الراقصة، أو الممثلة، وربما عند بعضهم مثل الأراجوز والمهرج ولاعب السيرك، وربما أنه عند طرف ثالث مثل القرداتي أو حتى القرد في حديقة الحيوان، وهذه للأسف، من علامات عصرنا العربي الذهبي الراهن، التي كسد فيها سوق الثقافة والمثقفين، وبضاعة الساسة والسياسيين، وصعدت فيها أسعار الفن والفنانين، وراجت أخبار الحمقى والمغفلين. وبما أن الجمهور عايز أو عاوز كده، هو شعار المرحلة، فإن العبد لله لا يستطيع أن يعرّض بضاعته اليومية، في هذه الزاوية المتواضعة، إلى خطر الكساد، لذلك، نعود اليوم إلى رائد الفضاء سيرجي كريكالوف الذي كان سوفييتياً قبل أن ينطلق إلى الفضاء في مايو الماضي، وأصبح الآن روسياً، معلقاً في الجو، لا يعرف مصيره، بعد أن كان من المفترض أن يعيدوه إلى الأرض في أكتوبر الماضي لكن جماعته نسوه وانشغلوا عنه، فظل هناك يواجه خطر اللا عودة.
وهذا السيرجي المأسوف على مصيره كتبنا عنه يوم الجمعة واقترحنا أن يصعد إليه أميتاب باتشان، فهو الوحيد القادر على إرجاعه بقفزة بهلوانية من بتوع السينما، ونعود إليه اليوم لأن قراء تعاطفوا معه، وقدموا اقتراحات أخرى لمساعدته في العودة، وبدوري اقترح على هؤلاء أن يرسلوا اقتراحاتهم إلى بوريس يلتسين مباشرة، لأنني شخصياً تعاطفت مع واحد آخر معلق هو أيضاً في الجو أكثر من تعاطفي مع هذا السيرجي. وسالفة المعلقين أو العالقين سالفة فبعضهم مثل سيرجي معلق غصباً عنه ورغم إرادته، ومثله الإيراني الإنجليزي الدولي المدعو ميرهان كريمي المعلق في مطار شارل ديجول منذ أكثر من سنتين، لأنه لا يحمل جنسية، وبعضهم يتعلق بعمود نور أو على شجرة بمزاجه وحسب الكيف، ومنهم النيجيري مايكل الذي تعاطفت معه، ومنهم كذلك، الذي طلع مرة أحد أعمدة الكهرباء وظل هناك، فيما زميله ينتظره على الرصيف، فلما مر بهما شرطي سأله: ماذا يصنع رفيقك هناك؟ فأجابه: يظن نفسه لمبة! فقال له الشرطي: دعه ينزل قبل أن يقع وينكسر رأسه، فرد عليه هذا: لا يا عسكري أرجوك، أحسن النور ينقطع! وهكذا، تتعدد الأسباب والتعليق واحد، وإلى الذين تعاطفوا مع سيرجي، على أساس أنه ضحية لما حدث في بلاده من تغيرات لم تكن في الحسبان، فإننا نطمئنهم بأن رئيسه الجديد بوريس يلتسين قد وعده بإنزاله إلى الأرض بسرعة في مارس المقبل، شريطة أن يرشد استهلاكه ويقلل من الأكل ويتقشف فيه، حتى يبقى حياً إلى ذلك الموعد، بعد أن أخذ وعداً من الأمريكان بمساعدة الروس على إعادة سيرجي إلى الأرض، أما الإيراني الدولي، فهو وجد حلاً مناسباً، حين استخرجوا له مؤخراً مواد قانونية تتيح له الحصول على هوية وحق إقامة دائمة وحق تنقل بين دول موقعة على معاهدة جنيف للاجئين، بعد البهدلة الطويلة والمرمطة التي عاشها المسكين.
غير أنني أشك في أن الأمريكان سيوفون بوعدهم، فهم لن يتكبدوا خسارة عدة ملايين من الدولارات من أجل روسي يتضور جوعاً في الفضاء، إلا إذا كان يلتسين قد كذب عليهم وادعى أن رائده اكتشف في الفضاء بترولاً ويورانيوم وراديوم، أو أي معادن أخرى تولد الطاقة، ففي هذه الحالة سيركضون إليه بأسرع من البرق لدواعٍ إنسانية طبعاً. أما مايكل النيجيري الذي طلع شجرة وبقي معلقاً بها خمس سنوات رافضاً النزول، رغم السحر الذي استخدمه الأفارقة لإنزاله، ورغم رشقه بالحجارة، فإن لا أحد هب لنجدته، مع أن الأفارقة طلبوا المساعدة الدولية لإقناع صاحبهم لكي ينزل، ولا أتصور أنه سيقتنع، طالما ظلت الشمس ساخنة وحارة في نيجيريا، ونحن نعرف ما تفعله الشمس برؤوس هؤلاء، ونعرف أن هذا هو السبب الذي جعل النيجيريين يعجزون عن إعادة صاحبهم إلى الأرض، مع أن مشكلتهم أسهل من مشكلة الروس مع سيرجي، ومن مشكلة الأوروبيين مع الإيراني، ولذلك فحل مشكلتهم سهل وبسيط ولم يخطر ببالهم. لذا، وتعاطفاً مع مايكل، أرسلت برقية عاجلة أمس إلى نيجيريا أوصى فيها، لإنزال صاحبهم بقطع الشجرة فوراً!
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.