عبد الحميد أحمد

دولار يا محسنين

عندي اليوم نصيحة تخدم السلام والنظام العالمي الجديد، أتمنى لو يسمعها ميخائيل سيرجيفيتش جورباتشوف قبل أن نرى صوره عبر وكالات الأنباء وهو يمد يده للمارة في أحد شوارع موسكو، إلا أنني أؤجل النصيحة لما بعد.

فالرجل التاريخي، كما تسميه الصحافة الغربية، جورباتشوف أو خربشوف أو غربلشوف، كما يسميه صحافيونا الساخرون، يبحث عن الدولار، بعد أن كان رئيس ثاني أقوى دولة في العالم، كانت إذا ظهر جنرالاتها على شاشة التلفزيون ببزاتهم العسكرية ووجوههم الصارمة، ترتعد لمرآهم فرائص البنتاجون وجنرالات حلف الأطلسي، وكانت إذا ظهر أعضاء المكتب السياسي لحكومتها بنظراتهم الغامضة وصلابة ملامحهم، يثيرون الهيبة في نفوس من يراهم يقفون على شرفة الكرملين، لكن كل هذا ولى، وصار واحداً منهم يبحث اليوم عن دولار وبضعة سنتات. وبدل هذه الصورة المهيبة للدولة القوية، يشاهد العالم اليوم عجائز وفقراء يشحذون في الشوارع أو يبيعون متاع بيوتهم ومتاعهم الشخصي من أحذية وملابس لكي يجلبوا بثمنها حليباً أو لحماً.

ونختصر الحديث عن هذه الحالة بهذه النكتة التي صارت الآن قديمة، حيث إن واقع ما يجري في موسكو وكييف ومينسك وبطرسبورج وغيرها من المدن الكبيرة، يتجاوز ويتفوق على النكتة خيالاً وإبداعاً، والنكتة تقول إن دولة شيوعية أقيمت في الصحراء، وفي سنوات قصار حققت إنجازات باهرة، لكنها بعد ذلك صارت تعاني من أزمات حادة، نقص في الغذاء، نقص في الوقود، نقص في الملابس وفي الأدوية والمساكن، وأيضاً نقص خطير في رمال الصحراء. ونعود لصاحبنا جورباتشوف الذي قال مؤخراً إنه أدرك بعد تردده على المتاجر أن ٥٠٠ روبل تتبخر بسرعة، وأن كل ما يفكر فيه الآن هو أن يكسب بعض الدولارات كي يعول أسرته، وللعلم فإن راتب جورباتشوف التقاعدي الذي حدده له يلتسين لا يتجاوز الستين دولاراً حالياً. ثم إن صحيفة في بطرسبورج، يبدو أنها تحب جورباتشوف، شنت حملة لجمع التبرعات لمساعدته على الأيام الصعبة التي يعيشها محبوبهم السابق، الذي جلب لهم الحرية والديمقراطية، غير أن الروس لم يتبرعوا إلا بمبلغ زهيد بالكاد يكفي لشراء قطعة من الجبن، ذلك لأنهم في حال أسوأ من رئيسهم السابق المحبوب، مع إنني أشك في أنهم يحبونه، بعدما رأوا إنجازاته الباهرة في الشوارع وفي بطونهم. ثم إن جورباتشوف نفسه فكر في أن يبيع مقالات للصحف العالمية، معتمداً على شهرته واسمه، غير أن هذه الصحف، وعلى خطى صحيفة إنجليزية شربت مقلباً في مذكراته المتعلقة بالانقلاب، ففسخت العقد معه، ورفضت دفع مليم واحد له، لابد أن تكتشف سريعاً أن هذه المقالات لو كتبها طالب في الثانوية أو صحافي مبتدئ لكانت لها قيمة سياسية وفكرية، أكثر من قيمتها حسبما ظهر واضحاً في مقالتيه اللتين نشرهما حتى الآن.

أكثر من ذلك، فإن الغرب نفسه الذي عرض على جوربي وظائف عدة، تبين الآن أنه ليس جاداً في عروضه، فأولاً، هؤلاء يعرفون جورباتشوف جيداً وغير مستعدين للمغامرة وارتكاب الحماقات، ثم إنهم ولأنهم رأسماليون أباً عن جد، لا يبحثون عن البضائع منتهية الصلاحية. وبما أن أبواب الدولار مسدودة أمام جوربي، فإنني أنصحه اليوم، خاصة أنه ذاهب في يونيو المقبل إلى إسرائيل، لتسلم جائزة هارفي من جامعة حيفا ومقدارها ٣٥ ألف دولار تقديراً لجهوده في السلام، كما زعموا، أنصحه بالبقاء هناك، ليعيش في إسرائيل، وبالمقابل أناشد العرب وأطالبهم بشدة بتمويل معيشة جوربي في إسرائيل وتحمل تكاليفها كاملة، وذلك لأن وجوده في إسرائيل كفيل بتخريبها في ظرف سنة وتفكيكها وتسريع انهيارها باستخدام مواهبه البريسترويكية، وفي هذا أكبر خدمة للسلام، ولنا نحن العرب أيضاً، وللعالم أجمع، ونظامه الجديد.

ولو لم يقبل منا هذه النصيحة، فإننا لن نتردد عن اتهامه بالتآمر علينا لمصلحة غيرنا، لذا نفضل لو يقضي بقية عمره في موسكو مادا يده: دولار يا محسنين.

من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.