عبد الحميد أحمد

كلام شوارع

«كلام شوارع» هو أحد الأوصاف التي أطلقها قارئ غاضب، على ما كتبناه يوم الخميس الماضي، عن ضحايا التأنيث من المدرسين، وبدا لي أن هذا القارئ من طريقة كلامه وشتمه للعبد لله صاحب هذه الزاوية، ومن الغضب الساطع الآتي في هدير طلقاته عبر سماعة التليفون، أنه واحد من هؤلاء الضحايا، الذين جندلتهم مرحلة التأنيث التربوية. ومع أننا أردنا أن نمازح الطرفين، أي المعلمين والمعلمات معاً، يوم الخميس، إلا أن الكلام الساخر، وهو عادة ما يكون حمال أوجه، أوقعني ضحية الطرفين معاً، المعلمون الذين وجدوا فيما قلناه سخرية منهم، والمعلمات اللواتي فهم بعضهن أننا نشكك في قدراتهن وصلاحيتهن لتعليم أولادنا الذكور، فكان لنا من لسانهن الحلو نصيب.

غير أنني وجدت، في كلام هؤلاء وهؤلاء، وفي ردود أفعالهم، بما أثارته الزاوية تلك من ضجيج وكلام وشتم، أن الرسالة وصلت، لأنها نقلت «كلام الشوارع» على حد وصف المعلم الغاضب، من الهمس إلى العلن، خاصة في أوساط شارع التربية والتعليم، الذين ينقسمون عادة إلى فريقين، مؤيد ومعارض، لكل خطوة جديدة تتخذها الوزارة، مثلما حصل مع إدخال الإنجليزية إلى الصف الأول الابتدائي، ومثلما يحصل الآن مع التأنيث. ففي التربية من يرى أن تعليم أولادنا على أيدي معلمات فيه سلبيات على الأولاد، أقلها أن الولد من هؤلاء يتطبع بطباع معلمته، وأسلوبها الحريمي الناعم، ونمط تفكيرها النسوي، ويضيفون، إن الولد سيأخذ منها الرقة والنعومة، بدلاً من أن يتعلم الرجولة والقوة.

وسمعت من هؤلاء من يقول إن الولد سيتعلم أن يقول: «ويديه وهو…» وإلى آخر هذه التعابير التي عادة ما تنطق عندنا على لسان الحريم، ثم إن ندوة نظمت في رأس الخيمة حول هذا الموضوع، هدفت إلى إثناء وزارة التربية عن قرارها بالتأنيث، غير أن هذه الندوة لم تقدم ما تعتمد عليه من أدلة وخبرات علمية وعملية تسند رأيها، غير الكلام الذي يردده الشارع، وأوردنا جزءاً منه في زاوية الخميس، وهو إن لم يكن كلام شوارع فهو كلام عجائز وشيّاب.

مقابل هؤلاء يرى آخرون ما نراه، وهو أن تأنيث الابتدائي ليس جديداً عندنا، إذ إن تجربته بدأت منذ ما يزيد على ثلاث سنوات في بعض مدارسنا، على عهد الوزير والوكيل السابقين للتربية والتعليم ولم تثر ضده أية معارضة، ثم إنه أثبت صلاحيته ونجاحه أيضاً، إضافة بالطبع إلى أن مثل هذه التجربة طبقت ولا تزال سارية لدى العديد من الدول، بما في ذلك بعض دول الخليج العربية، ولاقت استحساناً وقبولاً ونجاحاً، ثم إنها مطبقة في أغلب المدارس الخاصة، وهذه التجربة تدعمها خبرات عملية سابقة وآراء علمية تثبت جدواها وصلاحيتها، خاصة عند تعليم التلاميذ صغار السن، على أيدي معلمات هو امتداد لمرحلة الروضة ولمرحلة البيت، حيث الطفل يتلقى غالبية تربيته وسلوكياته على أيدي أمه ومعلماته، ونادراً ما يتلقاهما على أيدي أبيه شبه الغائب عن البيت. وربما كان بإمكاننا إضافة معلومة أخرى لمن يعارض التأنيث ويحاول التشكيك فيه، وهو أن المطوعة في زمن ما قبل التعليم النظامي كان يتلقى على يديها علوم القرآن التلاميذ من الجنسين، جنباً إلى جنب، ولم نكن نرى في ذلك أية غضاضة، تماماً مثلما كان هؤلاء التلاميذ ومن الجنسين أيضاً يتلقون دروسهم على أيدي المطوع وهم صغار السن.

غير أن ما نود أن نخلص إليه من هذه القضية المفروغ منه عندنا، هو مصير المعلمين الذين راحوا ضحية هذا التطوير، الذي جاء كما نعلم لحل مشكلة الفائض من المعلمات المواطنات خريجات التأهيل التربوي والجامعيات الباحثات عن عمل، ولهن كل الحق طبعاً في التوظيف والعمل لخدمة وطنهن وتلاميذ وطنهن قبل غيرهن، إلا أننا نرى رغم ذلك، أن بإمكان التربية الاستفادة من خبرات وكفاءات المعلمين، خاصة الذين قضوا سنوات طويلة عندنا في التعليم الابتدائي، والاستفادة من بعضهم في التعليم الإعدادي، بدلاً من استيراد جدد من الخارج.

ومع ذلك، نقول إن أهل التربية أدرى بشعابها، ما نحن إلا صدى لكلام الشارع الذي يجعل عفاريت البعض الزرقاء تطلع عن طورها.

من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.