عبد الحميد أحمد

بانكوك صيفاً

بانكوك أصابتها عين ما صلت على النبي، وربما أيضاً إن واحدة من عجائزنا، بعد أن تعبت من ولدها ولم تفد معه نصائحها، دعت على بانكوك، فأصابتها حمى العنف، التي تنتشر هذه الأيام وترفع درجة حرارة الكثير من المدن والبلدان في العالم إلى حد الهذيان والغليان. ولابد أن شبابنا، وحتى بعض شيابنا الذين يلعبون بذيلهم، فيقولون لحريمهم إنهم ذاهبون إلى الحج فيذهبون سراً إلى بانكوك، يشعرون الآن بنكبة وغصة، مثل نكبة فلسطين عام 1948 وهم يقرأون أخبار الاضطرابات ويرون في التلفزيون المظاهرات والضرب والعنف والشرطة وأصوات الرصاص يلعلع في الشوارع.

وأعتقد أن بعض هؤلاء الذين يتذكرون ليالي بانكوك وأيامها، يفكرون الآن في البديل، غير أنني أشك في أنهم سيجدون مكاناً آخر يلائم هواياتهم العنترية، فالواحد من هؤلاء تجعله بانكوك، بدراهم قليلة هارون الرشيد، أو الاسكندر ذا القرنين الذي يغزو ويفتح البلدان، لكن بالفلوس وليس بالسلاح.

ومع ما يجري في بانكوك من مشكلات واضطرابات، إلا أن الحجوزات إليها صارت «فل» من الآن وحتى إلى ما بعد العيد، ومعنى هذا أن شبابنا الصناديد الشجعان، الذين كانوا ذخرنا لمعارك التحرير والتعمير، أيام كان عندنا مثل هذه المعارك، لا تهمهم مثل تلك الأحداث، بل لعل بعضهم لم يسمع بها، ولسان حالهم يقول كما هو الحال كل صيف لابد من بانكوك وإن طال السفر، وإلا فما معنى الشجاعة والرجولة بلا بانكوك؟

ونترك هؤلاء الذين لا يفيد فيهم كلام، إلى نصائح بعض المسؤولين والغيورين على شبابنا خاصة في الصيف، حيث يتفنن هؤلاء في ابتكار مالا يخطر على بال لقضاء أوقات فراغهم، لنتوقف عند نصيحة قدمت لأولياء الأمور تطالبهم بمراقبة أولادهم طيلة الوقت، وهي نصيحة في محلها، لولا أن تنفيذها صعب خاصة أن الأب يكون صباحاً في عمله وعند الظهر لا يمكنه تجنب ساعة القيلولة المقدسة، بعد غداء ثقيل يجعل ساعة القيلولة ساعات، وبعد ذلك، فهو مع أصدقائه أو في عمله الإضافي الحر. وأرى أننا لو أردنا تنفيذ مثل هذه النصيحة، لكان علينا أن نمنح كل ولي أمر، خاصة الذي عنده أولاد في سن المراهقة، إجازة من العمل طوال الصيف شبيهة بإجازة الوضع التي نمنحها للحوامل من نسائنا العاملات، لكي يتفرغ لأولاده ويضعهم تحت عينيه لا يفلتون من رقابته دقيقة.

ثم إن هذا التفرغ، لن يكون إجازة في حقيقتها، لأن كل أب سوف يعمل خلالها شارلوك هولمز، أو جيمس بوند، وهو يطارد ولده من المراكز التجارية المكيفة إلى شواطئ البحر والمقاهي، إضافة بالطبع إلى مطاردته في الشوارع في سيارته أو سيارة أصدقائه ذات الزجاج الأسود، وربما يضطر الأب في مثل هذه الأحوال إلى الاستعانة بشبكة من الجواسيس والمخبرين وبأحدث أجهزة الاتصال السلكي واللاسلكي وبسيارات السباق السريعة بالطبع.

ومادام أنه سيقوم بكل ذلك فإن من حقه المطالبة بعلاوة على رواتب الإجازة ببدلات إضافية، كبدل ضربة الشمس، وبدل مشتريات لزوم هذه المهمة، وبدل المخاطر وبدل السهر وقلة النوم، إلى آخر هذه البدلات التي تتطلبها مهمة مراقبة أولاد هذه الأيام. ولو صار ونفذنا مثل هذا الاقتراح، لتحولت مدننا إلى ساحات مطاردة ومعارك وحروب تشبه استوديوهات لوس أنجلوس، وفيها سيجد أولادنا أحسن تسلية تملأ فراغهم، وهم يلاعبوننا لعبة القط والفأر، التي يجيدونها ويعشقونها عن سواها.

هذه هي مأساة كل صيف، حيث لا توجد عندنا برامج مسبقة ومدروسة لهؤلاء الشباب، ومعد لها سلفاً إلا في آخر لحظة، فإذا استطعنا هذا العام استيعاب خمسة آلاف شاب على أحسن تقدير في المراكز الصيفية وفي الوزارات والمؤسسات، فماذا يصنع الآخرون، الذين يزيد عددهم عن هؤلاء أضعافاً أضعافاً، ولا يحسنون أية هواية غير الصياعة والتسكع والبحث عن تسلية مهما تكن وأين؟

… سؤال كل عام المعلق حتى إشعار آخر.

من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.