عبد الحميد أحمد

شهداء المزاج الوطني

من المفترض أن يكون المدخنون اليوم مؤدبين وعقلاء، فيسمعون كلام منظمة الصحة العالمية التي دعت إلى الامتناع عن السيجارة والسيجار والأرجيلة والبايب والكدو وكافة أصناف وأنواع ووسائل نفث الدخان إلى الصدر وإلى الأجواء، فيساهمون بذلك فيما لو استجابوا للدعوة في خفض معدلات تلوث الهواء في العالم، بالزفت والقطران وثاني أكسيد الكربون.. (معذرة دقيقة واحدة، أطفئ فيها السيجارة ثم استأنف الكتابة). غير أن هؤلاء، وأنا منهم، تعودوا على عدم الاستماع إلى النصائح التي تحاول حرمانهم من وسيلتهم الوحيدة للتسلية، والتي يجدون في حرقها ما يخفف عنهم شيئاً من بلاويهم، حتى إن برنارد شو، الكاتب الأيرلندي الساخر، سألوه: ألا ترى أن السيجارة مثل الأصنام؟ فرد ساخراً: لذلك فإننا نلفها ونحرقها. وشخصياً، وتعاطفاً مع منظمة الصحة العالمية ولكي لا تأخذ على خاطرها فتزعل، قررت اليوم، استجابة لدعوتها بمناسبة اليوم العالمي للامتناع عن التدخين، أن لا أشعل سيجارة عند توقفي في محطة البنزين، وأن أتوقف عن التدخين أثناء تناول الوجبات الثلاث وأثناء دخولي الحمام، وأكثر من ذلك سوف أقلع عن السيجارة من الساعة الثانية صباحاً وحتى الساعة التاسعة صباحاً، حيث سأكون في سابع نومة. وتذكرني المنظمة العالمية التي لا حول لها ولا قوة، وتشبه في ذلك أمها أو جدتها منظمة الأمم المتحدة، التي لا عمل لها سوى الكلام والثرثرة بحكاية أربعة مصلحين اجتماعيين التقوا ذات يوم في حديقة للاستراحة من أعباء العمل، فقال أحدهم: شخصياً أصارحكم بأنني مدمن على الكحول، فقال آخر: بما أن زميلنا صريح ويدفعنا إلى التحدث بصراحة عن مشكلاتنا، فإنني أكاشفكم أن مشكلتي الكبرى هي ولعي بالمقامرة، وتشجع الثالث فاعترف: أما أنا فإنه يؤلمني أن أخبركم أن حبي للنساء والركض ورائهن يزداد عندي، ثم جاء دور المصلح الرابع فقال لزملائه: الواقع أني أخشى من عرض مشكلتي، فيعرفها الناس، فقالوا له مشجعين: تحدث أيها الزميل، فكلامك سيبقى سراً. وهنا قال هذا: مشكلتي هي إنني ثرثار. ونحن لا نتهم المنظمة الأم وبناتها بالثرثرة، لأنها عملياً ليس لها من دور في حياة الأمم والشعوب الأعضاء فيها غير الكلام والنصح والتحذير، وهكذا فإنها كل عام تتحفنا بتقارير عن أضرار التدخين وعن عدد الوفيات والمشكلات التي تتسبب فيها هذه العادة القاتلة، مع أن المنظمة تعرف مثلاً أن الشركات الدولية الخمس الكبرى التي تصنع السجائر تحقق سنوياً عائداً يوازي 60 ضعف ميزانيتها، وأن دخل أكبر هذه الشركات يعادل الدخل السنوي الصافي لدولة يبلغ عدد سكانها 115 مليون نسمة كبنجلاديش مثلاً وأن هذه الشركات تضاعف عاماً بعد عام إنتاجها وإعلاناتها التي تحرض على شراء السجائر، ثم إنها تدفع بالدول، خاصة المتخلفة من العالم الثالث، إلى زراعة التبغ على حساب المحاصيل الأخرى لأنها تضمن شراء هذا التبغ منها.

وكل هذه الحقائق وغيرها من حقائق السيطرة الغربية الاقتصادية التي يدمر بعضها العالم بالتلوث والأمراض وغير ذلك من المشكلات تعرفها المنظمة، غير أنها تقف عاجزة عن التدخل الفعلي، أو العمل على الحد من سطوة شركات التدخين، التي يروح ضحية لها ثلاثة ملايين إنسان كل عام، غالبيتهم من دول العالم الثالث، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم خلال سنوات إلى 10 ملايين ضحية حسب تقارير المنظمة نفسها. وبما أنني لست عدواً لمنظمة الصحة العالمية، إذ يكفيها عداء شركات السجائر والتبغ التي ترى في تقاريرها وتحذيراتها دعاية مضادة لنشاطها وخطورة على إنتاجها وأرباحها السنوية خاصة إذا استمع لها المدخنون وتوقفوا نهائياً عن شراء السجائر، فإنني اقترح على دولنا العربية ودول العالم الثالث، أن تنشئ مصانع خاصة بها لتصنيع وبيع السجائر، ليس لأننا نريد التحرير من تبعية الاقتصاد الغربي فذلك ما لم نقدر عليه يوماً، بل لكي يموت المدخنون في هذه البلدان على أيدي السجائر الوطنية، فنعتبر موتهم نضالاً وطنياً على طريق التحرر الاقتصادي والسياسي. وهكذا سيصير عندنا إضافة لكل شهداء الاستقلال، شهداء السجائر والدخان والمزاج الوطني الخالص من نوع المعسل زغلول وإخوانه وأخواته.

من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.