صفعتان

صفعتان

استقل سيارة تاكسي قاصداً المدينة، لا يفكر في شيء مطلقاً، بل في لحظة شعر بأنه لا يملك القدرة على التفكير في أي شيء، لا يملك التركيز، يرى الأشياء وكأنه لا يراها..

ترك خلفه خورفكان، جفافها، غبارها، حجارتها، ناسها، بحرها، ركودها، شمسها. تسلَّى، في الطريق الطويل، بتدخين السجائر وبمراقبة الأسفلت والجبال ثم الصحراء، بعيون زجاجية ليس فيها تعبير من أي نوع. أحس في فمه طعم الجفاف واليباس، لعل الصحراء الشاسعة برمالها الصفراء أثارت فيه هذا الإحساس. ليس يدري.

حدّق في وجه السائق، لم ير في ملامحه ما يمكن أن يخرجه من هذه الحالة البليدة، حالة تشبه الطيران في فراغ، أو التحديق في الهواء أو المشي فوق الماء. ليس يدري.

آخر مرة نزل فيها المدينة، سهر لدى صديقه، تحدثا في كل شيء: السياسة، المرأة، الجامعة، السيارة الإلكترونية، الكواكب وأشياء أخرى كثيرة. المدينة كانت  تغريه، كان يقصدها بين فترة وأخرى لسبب ليس يعلمه بالتحديد، ربما لأنه يجد فيها نقيض القرية، القرية الجميلة: السكون، الهواء الجاف، الفقر، الكسل، الناس الطيبون، الصيادون، المزارعون… والمدينة جميلة جداً: الحركة،  الضوضاء، البشر غير العاديين، العمارات، الواجهات الأنيقة،  السيارات الفارهة فوق  الطرقات المسفلتة، الصحف، الكتب، النساء يعملن، في السوق  رائحات غاديات، وربما أيضاً  لأنه يريد أن يفعل بين فترة وأخرى حدثاً يكسر رتابة أيامه، كأن يسهر مثلاً، أو يناقش، يتجول متسكعاً في الشوارع المزدانة بالأضواء والبضائع والبشر، يحضر أمسية أو محاضرة، يشاهد عمارة شاهقة زجاجية بدلاً من الجبل المعفر بالغبار، أو في أحسن الحالات، وإذا جرت الأمور يحظى بليلة دافئة، كتلك التي جلب فيها صديقه امرأة ليس يعرفها، نام معها. المدينة جميلة جداً، رحبة جداً، منفتحة جداً، حرة جداً.

عاد ينظر إلى الصحراء والسيارة تقترب من المدينة، سأل السائق دون أن يدري لماذا؟

– رفيكَ، خورفكان أحسن، دبي أحسن؟

– خورفكان فيه هوا زين، جبل زين، دبي فيه شغل وايد، فلوس وايد.

ثم تابع بعد أن فتح النافذة وبصق في الهواء :

– إمارات كله زين.

سكت، لكن حديثه القصير مع السائق فتح له شهية جديدة للتفكير، ماذا يصنع الناس في المدينة؟ أشياء كثيرة جداً، كل شيء متوفر. حالة اللا تفكير بدأت تتراجع وحلت محلها حالة الاستجواب، الاستفهام، السؤال.

في خورفكان، الحياة عادية، أيام رتيبة، وعمل يتكرر يوماً بعد آخر، الصيادون، المزارعون كم هم طيبون! يحدثونه في كل شؤونهم، حتى الخاصة منها، والخاص جداً، كعلاقاتهم مع نسائهم.. رائعون في صفائهم! المدينة فيها أشياء أخرى، أجمل، الناس يفكرون بطريقة تختلف عن طريقة ناس  القرية، متحضرون.

وقف عند الكلمة الأخيرة، كررها في سره، صارت استفهاماً كبيراً بحاجة إلى إجابة، إجابة من أي نوع، أي نوع يا ترى؟ ليس يدري، لكن المدينة بالتأكيد جميلة، جميلة جداً.

الليلة سيجعل النقاش بينه وبين صديقه يدور حول هذه النقطة. في كل مرة ينزل فيها المدينة، أية مدينة، أبوظبي، دبي، الشارقة أو غيرها، يكتشف أمراً جديداً، قال لصديقه مرة: إنه يغزو المدينة غزواً استكشافياً، فناقشا هذا الأمر طويلاً.

حين وصل دبي قصد منزل صديقه، لم يجده، كانت الساعة حوالي الرابعة، تمشّى قليلاً، صديقه  لن يأتي قبل الثامنة مساء. التسكع في الطرقات متعة، وأية متعة.

نظر إلى المحلات، عبر شوارع، وقف فوق أرصفة، دخّن سجائر، راقب الرائحين والغادين، راقب النساء.. فكّر : “النساء وحدهن هنا جديرات بالمراقبة، بأن يسرقن الأنظار.. خورفكان فيها نساء ملفوفات مبرقعات داخل وخارج  البيوت، الحديث إليهن غاية صعبة، هنا الأمر يختلف، المرأة ترتدي فستاناً جميلاً، تتسوق، تتحدث، فساتين، أحجام، شعور مختلفة، هذه بيضاء، تلك هندية سوداء، شقراء، إنكليزية أو هولندية، هذه مصرية، لبنانية، مواطنة ترفع عباءتها الشفافة إلى ما فوق مؤخرتها.. متعة.. النظر وحده متعة هنا.. ثم إن…”. توقف عن التفكير، ماذا قال لنفسه : ” ترى لو طلبت من واحدة أمراً ستقول نعم.. وقد تقول لا.. لا يهم، الأمر لها، ولن أخسر شيئاً..”.

قبل أن يعبر الشارع إلى الرصيف الآخر، تلفت يميناً وشمالاً، دشداشته ليست نظيفة كما يجب، رأسه حاسر، لا أحد يلتفت له، يمرون من حوله، أمامه وخلفه، رجال ونساء، وهو منغزر كالمسمار فوق الرصيف، سيارات نظيفة، محلات فاخرة، أضواء، أي جمال. لفتت نظره امرأة على الرصيف الآخر، عبر خلفها، تبعها، لاحقتها نظراته الباردة : ساقان ممتلئتان رائعتان كالحليب، ومؤخرة متناسقة مع الجسد الطويل .. تمشي وحدها.

وقفت أمام واجهة محل، وقف قرب مترين منها، تابع تحديقه : إنها جميلة، جميلة جداً، نساء المدن رائعات كالمدن نفسها، ومتحضرات كالمدن. مشت، مشى، وقفت، وقف، انحنت تصلح من حذائها، استدارت مؤخرتها، راقه المنظر كثيراً، مشت، هل يستمر في ملاحقتها؟ لم يشغل نفسه بالإجابة، مشى، عند واجهة محل للذهب وقفت، اقترب، أخذ يحدق في الواجهة إلى جانبها، كاد جسمه أن يلامس جسمها، شم رائحة عطر لذيذ. قد تقول نعم، قد تقول لا:

– عفواً، هل من الممكن أن تمارسي الجنس معي؟

رفعت رأسها، عيناها زائغتان تملأهما الدهشة أو الخجل أو التردد، ليس يدري.. حدقت طويلاً فاغرة فاها، هل داهمها السؤال؟ وقف بارداً كتمثال، ليس في عينيه أي أثر لأي شيء، حدّق هو  فيها أيضاً، حقاً إنها جميلة. انتظر “نعم.. لا”، واحدة من الكلمتين، ظلت تحدّق. يبدو  أنها لم تصدق، أو لم تسمع، كلا، لقد سمعت، لكنها لا تريد أن تصدق، أو أنها لم تصدق ما سمعته، هل قال شيئاً لا يصدق؟ ليس يدري.. ظلت جامدة بهدوء كرر :

– هل من الممكن أن.. أعتقد أنك سمعت، قولي نعم أو قولي لا .. لك  ما تشائين !

احتقن وجهها، صار أحمر، انفرجت شفتاها، انفتح  فمها واسعاً، وانطلقت منه صرخة مذعورة.. ولولت، أمسكته من تلابيبه، علا صراخها:

-ماذا تقول .. ماذا أيها “الصايع” الضائع، يا ناس.. مجنون!

حاول أن يقول شيئاً.. هل يستحق الصراخ والعويل، ما قاله، قبل أن يفتح فمه وجد حوله عدداً كبيراً من الرجال والنساء، وكان من بينهم شرطي، تدخل. ظلت تصرخ :

– قليل الأدب.. “صايع”!

ظل صامتاً، اقتادهما الشرطي إلى المركز، فيما أخذت هي تلعن وتشتم ظل هو ساكتاً، هادئاً، وكأن شيئاً لم يحدث، وهل حدث شيء؟ ليس يدري، لكنها لا شك مغامرة، ستسفر عن ضحك أو رثاء أو بكاء، أو كشف جديد!

في المركز خلا به الضابط في مكتبه.

– ما اسمك؟

– سعيد عبد الله

– عمرك ؟

– عشرون عاماً

– العمل؟

– طالب في الجامعة.

– لماذا فعلت هذا؟

– ماذا فعلت؟

– كيف تسمح لنفسك أن تعتدي على الآخرين؟

أجاب في برود :

– لم أعتد على أحد؟

قال الضابط في غضب :

– قلت للسيدة كلاماً نابياً.

– قلت ولم أفعل شيئاً.. وليس ما قلته نابياً كما تقول.

– عرضت عليها أمراً لا يليق.

في هدوء أجاب :

– عرضت عليها أمراً كان بإمكانها أن تقبله، أو ترفضه، حسبما تريد، هي حرة، لكنها غضبت وعملت ضجة دون داعٍ.

فغر الضابط فاه :

-ماذا؟

– المفروض أنها تتقبل قولي، ولها حق القبول أو الرفض. هي حرة.

شهق الضابط ، وقال غاضباً :

– لكنك لست حراً في أن تفعل ما تريد.

دهش سعيد، قال :

– ماذا؟ هي حرة، وأنا حر، من حقي أن أطلب ما أريد، ومن حقها أن تلبي أو ترفض في هدوء ولا داعي لهذه الضجة.

صمت سعيد فترة، ماذا يقول؟ حوار غير معقول إطلاقاً، لكن المضي فيه، فيه متعة، لا بد أن زيفاً ما موجود في مكان ما. لا شك في هذا!

قال الضابط :

– أنت طالب، ويجب أن تراعي الآداب العامة. ألم تتعلم هذا في المدرسة؟

– تعلمت أشياء أخرى أيضاً.

ثم مواصلاً بثقة :

– ألم تسمع عن الديمقراطية؟

اشتعل الضابط غضباً، قال صارخاً :

– أتقلل أدبك هنا أيضاً ؟

– نحن نتناقش في هدوء، لماذا الغضب؟ من حقك أن ترد عليَّ، أن تناقشني.

– نحن لسنا للنقاش هنا، أمامنا قضية أنت متهم فيها، أنت اعتديت على سيدة..

قاطعة سعيد :

– لم أعتد عليها، لم ألمسها، لم أضربها، لم أغتصبها، سألتها سؤالاً لم أسمع له إجابة، سمعت صراخاً فقط، ليس من قضية إطلاقاً، والأم لا يغضب كما أعتقد .

اتسعت عينا الضابط :

– تطلب من امرأة لا تعرفها شيئاً كهذا، ثم تقول الأمر لا يغضب.

– وهي لا تعرفني أيضاً، كان بإمكانها أن تقول “لا” وتمضي في سلام. مارست حقي في الديمقراطية لكنها …

قاطعه الضابط وقد ازداد جنوناً :

– اخرس! ستقول لكنها لم تمارس ديمقراطيتها، صرخت، عملت مشكلة من لا شيء، من حقي أن أطلب، من حقها أن ترفض، في أوروبا يقول الفتى للفتاة ما يشاء، هذه حرية، ليس ثمة اعتداء.

– عفواً ، اسمح لي، دعني أتكلم.

قال الضابط هازئاً هذه المرة :

– ماذا تريد أن تضيف؟

–  ما قلته أنت صحيح، هي لم تمارس حقها، فقط صرخت، غضبت، لو قالت لا، كنت تركتها ومشيت. هذا كل ما في الأمر.

– أنت مراهق.. مجنون!

– لست مراهقاً، لكنكم لا تريدون أن تفهموا.. تخرجون من طوركم عند أول مجابهة، تغضبون، ماذا تريدون مني الآن؟

– سلامتك، لا شيء.

ثم بصرامة :

– عقاب هذه القضية سجنك يوماً، إلا إذا تنازلت السيدة عن القضية.

– عقاب على شيء لم أفعله.

تجاهله الضابط ونادى الشرطي ليحضر السيدة، فصمت سعيد.

بعد دقيقة دخلت السيدة، عاينها سعيد بنظرات متفحصة. قال في نفسه : “إنها لا شك جميلة.. جميلة جداً”.

– ماذا تريدين الآن، إنه كما رأيت مراهق، بإمكانك أن تسامحيه، أو نعاقبه بالسجن ليلة ونهاراً.

نظر إليها سعيد، قال لها :

– لماذا صرخت؟ لو سكتِّ.. لو قلت لا، لما جئت أنا وأنت إلى هنا، لمَ حدث كل هذا؟

صرخت فيه :

– أيها الوقح.. أنت وقح.

ثم واصلت :

– كلا، لن أسامحه، أريد أن أصفعه على وجهه صفعتين، والآن.

ندت عن سعيد دهشة : لماذا؟

قال الضابط: لنخلص من لعب العيال هذا.. أنا موافق.

أمسك الشرطي سعيداً، اقتربت السيدة وهوت بيدها على  وجه سعيد بصفعتين أحس لهما سخونة حامية فوق خديه بينما راح يصرخ فيها :

– أيتها الغبية .. حمقاء.. أنت غبية جداً!

قضى سعيد ليلة ونهارها في سجن المركز وحين خرج كان الليل قد حل، الأضواء تلمع على أعالي العمارات  وفوق الطرقات، المدينة جميلة في حلّة البهاء هذه، لكنها لم تغره هذه المرة، كيف جرى كل هذا؟ كتم ضحكة مريرة في نفسه، أيذهب لصديقه ويخبره بما جرى كما جرى؟ كلا. سيضحك، سيهزأ، سيعتبر الأمر جنوناً، ألم تصفعه الغبية صفعتين؟

أوقف سيارة تاكسي :

– خورفكان من فضلك .

انسابت به السيارة في الليل عبر الصحراء.. تاركاً خلفه المدينة بصخبها وضوضائها وناسها المزركشين بالثياب والسيارات والساعات الفاخرة، تفوح من ثيابهم روائح حلوة، تشي مظاهرهم بالفخامة، لا شيء في رأسه، يفكر، ليس يستطيع، لكنه أحس، وهو يتحسس وجهه المصفوع، أن المدينة صفعته صفعة قوية على غير ما توقع، وبأنها ليست إلا كالمرأة التي خاطبها، جميلة جداً، لكنها غبية جداً، لا تملك في داخلها غير الصراخ الأهوج.

صفعتان
من المجموعة القصصية (البيدار)، دار الكلمة للنشر، 1987

مجموعة قصص