خرج “حمدون” من البيت حاملاً طاسة وقطعة قماش، كانت الشمس قد بدأت ترتفع في السماء، مشى في زقاق طويل، أخرج من جيب “دشداشته” خبزة محلاة بالسكر، وراح يأكلها.
بدأت الحياة تدب في البيوت، وسمع “حمدون” أصوات الديكة والدجاج، وثغاء الماعز، وثمة عصافير تزقزق على أشجار اللوز. مرت بقربه “عنزة” صغيرة لمس ظهرها داعبها، قال لها :
– أين تذهبين هذا الصباح؟ آه تذهبين إلى البر للمرعى، أنا، أنا ذاهب إلى البحر، لكم أحب البحر.
تركها ومضى يقضم خبزته الشهية..
كان رأسه حاسراً ورجلاه حافيتين، ودشداشته البيضاء ارتسمت فوقها بقع من زيت الخبزة والغبار، لمح قطة تتمسح بجدار، انحنى مقترباً منها، جلس بعد أن وضعها في حضنه، قطع من خبزته ليطعمها:
– كلي ألا تريدين، ألست جائعة؟ آه.. أنت حزينة، اين أولادك.. كلي .. هيا.
لكن القطة لم تستجب لحمدون، واصل :
– عرفت الآن، أنت لا تحبين الخبز، تحبين السمك، حسناً، سأصطاد لك سمكة، عندما أعود انتظريني ههنا.
تركها وسار صوب البحر.
حين وصل الشاطئ كان البحر هادئاً خالياً من الأمواج، والرمل الأبيض انتشرت فوقه قواقع وأصداف تلمع تحت الضوء الوهاج، في السماء ثمة سحاب متفرق.
– الآن سوف أبدأ ، يا سلام، ما أروع هذا البحر والسماء والرمل والقواقع.
خلع دشداشته، وضع قطعة القماش فوق فتحة الطاسة وربطها بخيط بإحكام، ثم شق فتحة طويلة في القماشة وأدخل من الفتحة كسرة خبز صغيرة، حمل الطاسة ونزل الماء.
حين لامس الماء شعر بلذة، رشرش جسده الصغير وغسل وجهه، وغير بعيد من الشاطئ، في الماء الضحل دفن الطاسة حتى منتصفها ثم خرج من جديد إلى الرمل.
جلس ناظراً إلى البحر، لونان، ثلاثة ألوان، جميع الألوان أبيض، أخضر، أخضر زيتي، أخضر غامق، سماوي، أزرق غامق، أسود، رمادي، يا سلام ، حفر في الرمل حفرة حتى انبثق منها الماء وضع رجليه في الحفرة، نظر إلى الغيم المتقطع في السماء، أبصر جملاً وبقرة، وغيمة أخرى كأنها تهرب وتتبدد.
جدتي تقول إن الغيم فيه المطر، وحين ينزل المطر ينمو العشب وتخضرّ الأرض، لكن هذا الغيم يهرب بعيداً. في العام الماضي نزلت أمطار كثيرة، خرجت مع سلوم وخماس وحمدان نلعب تحت المطر وفوق أكتافنا وضعنا الخيش، ورغم ذلك ابتلت ملابسنا، وحين عدت إلى البيت، لا، لا، أريد أن أتذكر ذلك، لماذا يضربني أبي كلما لعبت تحت المطر؟! المطر يغسل التراب وينمي العشب ويسقي الأشجار، لماذا يعتبره أبي ضارّاً؟ يقول : “سيصيبك الزكام”. ولكن لم يصبني الزكام، أنا أحب المطر، ليت هذه السحابة تقترب وترتفع فوق رأسي وتسكب ماءها كي ابتل وأغسل جسمي من الملح. البقرة اختفت، يا إلهي، والجمل صار صغيراً، صار نقطة في السماء، لكن ما هذا؟ إنه مثل الدجاجة، نعم إنها دجاجة، الدجاج في بيتنا يبيض بيضاً حاراً شهياً وأمي تعتني به وتطعمه الحب والشعير، لكن أبي يقول إنه يوسخ”الحوش” بالرشق، ثم يتشاجران. يرتفع صراخهما، ويشتم أحدهما الآخر، البحر جميل، وأبي يصطاد منه السمك الكثير، يبيع بعضه ونأكل بعضه.
انهال الرمل فوق رجلي حمدون، وتنبه إلى أن الحفرة قد استوت بالأرض حين مرت فوقها موجة خفيفة، اقترب من البحر، وعلى حافته تمدد ، نصف جسده في الماء، والنصف الآخر على التراب.
داعب الموج الصغير حمدون برقة، وبينما كان ينظر إلى السماء أبصر طيوراً تصوّت : “قاق، قيق، قاق، قيق”، رفع رأسه ولوّح لها، لكنها ابتعدت، “أين تذهبين أيتها الطيور الجميلة؟ اقتربي مني، هل تخاف مني الطيور؟ لماذا تخاف الطيور من الإنسان؟ لماذا لا تخاف البقرة، ولا يخاف الجمل؟ يا إلهي، اختفت السحب، الدجاجة لعلها طارت، لكنها سترجع في الغد، هذا السحاب يذهب بعيداً بعيداً، ويعود، يسقي الناس ويعود، والطيور ستعود كذلك. تذهب وتعود، وأبي يذهب إلى البحر ويعود، والموج يذهب ويعود، كل شيء يذهب ويعود”.
حط نورس على مقربة منه يداعب سمكة ميتة قذفها البحر، فالتفت حمدون إليه : يا له من طائر أبيض جميل! كم هي حلوة عيناه! يطير ويغتسل في الماء وتجففه الشمس، يا له من طائر سعيد!
نهض حمدون، ودخل الماء، فطار النورس محلقاً إلى الفضاء، يرف بجناحيه، وصل الماء إلى ركبتي حمدون. وقف قريباً من الطاسة، لمح نقطة صغيرة في الماء، في الأفق، لعلها سفينة، نعم، ها هو شراعها الأبيض يخفق، يلمع تحت الشمس، يختفي البياض ويظهر، سفينة عليها ركاب، أو صيادون، لوّح لها بيديه، لوّح طويلاً، قال :
– مع السلامة، أم أنكم قادمون؟ لم أرحل أبداً في سفينة، ليتني أفعل ذلك، أكون في عمق الماء، أرى من تحتي السمك، وتحوم حولي الطيور، والسفينة تعبر الماء إلى جزيرة هناك، ليس فيها إلا العشب والطيور والسمك، والشمس والدفء، وسآخذ معي قطة ودجاجة، وسأصطاد سمكاً كثيراً كثيراً، سأطعم القطة، وسألعب مع الدجاجة وأسبح في الماء وأشم الهواء، مع السلامة.. أم أنكم قادمون؟
وكانت السفينة قد تلاشت تماماً وسط الماء والسماء.
رفع حمدون طاسته، يا إلهي حاسوم! جرى بها إلى الشاطئ وعلى الرمل أدخل يده وأخرج سمكة جميلة، يا فرحتي! سيعرف أبي أنني أستطيع أن أصطاد السمك! سيعرف أصدقائي ذلك ايضاً، أيها الحاسوم كم أحبك، كيف دخلت الطاسة؟ هل كنت جائعاً وأغوتك كسرة الخبز؟ يا إلهي، هل خدعتك أنا؟
كلا، أنا أحبك أيها الحاسوم! وسآكلك! لا .. لا، لعل أمك الآن تبكي هلعاً عليك، ضللت الطريق وفقدت أمك وأخوانك؟ آه، عرفت الآن ما سأفعل بك.. سآخذك إلى القطة المسكينة، إنها تحب لحمك الطري الشهي، المسكينة كانت جائعة هذا الصباح، كانت تريد طعاماً، لكنها رفضت أن تأكل الخبز، إنها لا تحب الخبز، تحب السمك، ماذا قلت؟ هل آخذك إلى القطة، لكن، لعل أمك تبحث عنك الآن، لعلها تبكي، هل خدعتك أنا بكسرة الخبز، “وهو يضع الحاسوم في ماء الطاسة” هل تموت الآن لما تفارق الماء، نعم، أبي قال ذلك مرة لي، قال إن السمك لا يتنفس إلا في الماء ويموت إذا خرج إلى الشاطئ، ماذا أفعل بك إذن؟ قل لي، ماذا أفعل الآن؟ أنا لا أريد أن آكلك، أنت أيها الحاسوم المسكين! القطة تريدك نعم، لكن لماذا أعطيك للقطة؟ القطة ستأكل من البيوت الرز والسمك المشوي، أما أنت فماذا تأكل في الماء، العشب، أم ماذا؟ أمك لا شك خائفة وحزينة الآن، سأتركك تعود إلى الماء، لكن عدني أن تأتي إليَّ غداً وتخبرني ماذا قالت لك أمك، سوف أكون هنا في الصباح، حسناً أيها الحاسوم الجميل الأبيض ! أنا أحبك .. هه.. وهذا دليل محبتي.
قبَّل حمدون الحاسوم ثم رماه في الماء. فانطلق الحاسوم سابحاً ثم اختفى في بياض الرمل : وداعاً سأراك غداً..
عاد حمدون وجلس على الشاطئ يصلح من جديد وضع القماشة فوق فتحة الطاسة، كان البحر هادئاً والسماء صافية، ليس ثمة إلا نسمات تداعب شعر حمدون المتهدل فوق جبهته السمراء والهدوء الشامل والرمل والبحر والطيور وحمدون الجالس يدغدغه الماء فينتشي بكل شيء، لكن، فجأة، ارتعد حمدون حين مسته العصا، فصرخ هلعاً، وحين التفت رأى أباه واقفاً يلوح بالعصا في الهواء :
– أنت هنا وأنا بحثت عنك في كل مكان.
وانهالت عليه ضربة أخرى.
ارتفع صراخ حمدون وامتلأت عيناه بالدمع، أما وجهه فقد اتشح بالخوف والبكاء.
– أنت تلعب على البحر، ولا تفكر في العودة إلى البيت، ألا تعرف أن الظهر قد حان، هيا أمامي إلى البيت أيها الولد الأبله!
وفي الزقاق كان حمدون يجري باكياً! وخلفه أبوه مهرولاً والعصا في يده، وحين وصل البيت لم يكن يفكر مطلقاً في القطة والحاسوم والغيم والبحر، انهار في حضن أمه، لكن العصا وصلته وقد رسمت خطوطاً فوق ظهره النحيل.
– هذا الولد، يشقيني، امنعيه من الذهاب إلى البحر مرة أخرى.
وبينما كان حمدون غارقاً في النشيج والبكاء قالت أمه :
-ماذا أصنع له، إنه يحب البحر، لماذا لا تأخذه معك!
– آخذه معي؟ وهل لديّ وقت كافٍ لأسلّيه لك أم أن وقتي من أجل أن أطعمك وإياه؟
انصرف الأب في غيظه، بينما استمر حمدون ينشج ثم هدهدته أمه وتركته ذاهبة إلى المطبخ.
مرت ساعة وحمدون لا يفكر إلا في العصا التي انهالت على ظهره، بعد ذلك تذكّر أنه نسي الطاسة على الشاطئ، لكن النوم قد استبد به من أثر التعب، فأغلق عينيه ونام، بينما كان خطان من الدموع التي جفت قد وشما خديه، وفي اللحظة التي استغرقه النوم كان المد قد حمل الطاسة بعيداً في الماء!
هدهدة