- كثيراً ما يتعلم الإنسان من الناس البسطاء ومن أقوالهم الصادقة والحكيمة، أكثر مما يتعلمه من الكتب والمؤلفات التي ينجزها الكتاب والأدباء، خاصة تلك التي لا تضيف إلى المعرفة الإنسانية شيئاً، بل لعلها
تزوّرها أو تظهرها على عكسها، وتدفع المعرفة الإنسانية باتجاه الالتواء والضبابية وأحياناً التزييف الشامل.
إن البسطاء لا يعرفون الكذب، فهم يتقنون قول الحقيقة، لأنهم يعرفونها بإحساسهم ومشاعرهم العفوية التي هي نتاج حقيقتهم، ولأنهم يعيشون في قلب الحقيقة ليل نهار، حتى وإن لم يعوا ذلك، وهم فوق ذلك صانعو الحقيقة، ولهذا فهم مادة الكتابة الخام قبل أن تصير مصنعة أو شبه صناعية وتودع في بطون الكتب.
يكشف مكسيم غوركي في تجربته الخاصة في الكتابة أنه تعلم كيف يفكر وكيف يكتب من تلك الأفكار الحية لهؤلاء الناس البسطاء، ويشير بالأخص إلى تلك الأمثال والأقوال والحكم، مجهولة المؤلفين، والتي يطلقها البسطاء من الناس من فلاحين وغيرهم وتكون مليئة بالصدق وحرارة التعبير المكثف عن موقف أو حقيقة حياتية ما.
ويقول غوركي حول هذه الأمثال التي هي نتاج هؤلاء الناس إنها «تلخص بإيجاز بارع الخبرة الاجتماعية والتاريخية التي تراكمت لدى الناس العاملين، ويقف الكاتب بحاجة ماسة إلى المادة التي تعلمه أن يكثف الكلمات كما يفعل مع أصابعه فتصبح قبضة، ويوسع أيضاً الكلمات التي ضغطها الآخرون، ويفعل ذلك بطريقة تكشف عن المعاني الخفية المعارضة لمهمات الزمن، أو المهجورة».
إن كاتباً مثل غوركي يتعلم من هؤلاء الكتابة، يكتشف الحقيقة، ليس لأن تلك الأمثال والأقوال للناس البسطاء «تقدم الإشارة الأقوم في الاقتصاد وبالكلمات والبلاغة والمجاز فحسب، بل لأن الكثرة الكاثرة من سكان البلاد هم الطين الذي صاغ التاريخ» كما يفهم غوركي.
إن الكتابة قرين الحقيقة، ربما هي الحقيقة، ومن هنا يعرف الكاتب الجيد الذي يريد لأعماله أن تكون الحقيقة، مدى صعوبة المهمة التي يتصدى لها، من الناحية الفنية والجمالية كما من الناحية المضمونية والإنسانية، وإلا فإن مثلاً دارجاً قاله مجهول من البسطاء أكثر اكتنازاً بالجمال وبالحقيقة من كتاب لا جمال فيه ولا حقيقة!
وكاتب مثل هذا تكمن مهمته في تحسس الحقيقة، في البحث فيها وعنها، وكشفها لمن لا يعرفها، لمن لم تلطمه بعد، أليس هذا هو الخباز – أيها الصديق الحربي – في إحدى تجلياته وعطاءاته، ذلك الذي يصنع من العجين خبزاً حقيقياً وليس وهم الخبز!
حين يكون هناك آلاف من البشر يموتون جوعاً بشكل يومي لأنهم لا يجدون ما يأكلون فإنه ليس بوسعك أن تقول لهؤلاء إن هناك رغيفاً لامعاً في السماء، هو القمر، فاشبعوا منه، إن كتاباً لهؤلاء يقول حقيقتهم دون كذب، قد يقودهم إلى خبزهم الحقيقي، وعلى هذا الكتاب أن يكون صادقاً وفي مستوى الحقيقة التي هم يعيشونها ويستشعرون سخونتها حتى الموت، كتاب يحيل حقيقتهم إلى كلمات وتتحول كلماته إلى حقيقة!
وواقع مليء بالصفاقة والقبح والألم لا ينقصه من يضيف إليه خطايا أخرى، كالكذب أو التزوير أو الهم، ولكن ينقصه من يضيف إليه الصدق، والحقيقة، ولأن «الفن لا يطيق الكذب» كما يقول تشيخوف، فإن الكتابة ليست إلا الحقيقة، ولهذا فإن الكاتب الجيد يعرف أن تلك مهمة الأشق والأصعب، يعرف أن ذلك هو عذابه، كما هو الجزع عذاب أولئك، ويعرف أن الكلمات التي يصوغ بها الحقيقة تكون عذاباً، إذا أراد لها أن تكون الحقيقة، أو على أقل تقدير في مستوى تلك الحقيقة وخير ممثل لها.
لا يفعل ذلك إلا من تلطمه الحقيقة في عينه.
ويسوق مكسيم غوركي حكاية عن فن تعلم الحقيقة، وأسوق هنا تلك الحكاية كما يرويها غوركي: «عندما ظهرت الكوليرا في مدينة «نزني» أخذ مواطن ينشر الإشاعات عن أن الأطباء يتخلصون من المرضى، فأمر المحافظ بإلقاء القبض عليه وأرسله إلى العمل في المستشفى التي يعالج فيها مرض الكوليرا، وقيل إن ناشر الإشاعات السابق عبر عن شكره العظيم للمحافظ بعد مرور فترة من الزمن على عمله في المستشفى وللدرس الذي تلقاه، فقال له المحافظ، «عندما تلطمك الحقيقة في عينك فإنك تكف عن الكذب».
هذا المحافظ المجهول قال قولاً أو مثلاً عبر بصدق عن حقيقة ذلك المواطن الذي لطمته الحقيقة فكف عن الكذب، عن نشر الإشاعات، بل إنه شكر المحافظ على الدرس الذي لقنه إياه!
ترى، كم من الكتاب ينشرون الإشاعات، يومياً، ينشرون الكذب، وكم من الكتاب بالمقابل يقولون الحقيقة أو يحاولون؟
وقول الحقيقة في الكتاب لا يعني إطلاقاً التخلي عن أدواتها وعن جودتها وتجاوزها لما سبق وتحقيق أعلى قدر من الجودة الفنية والجمالية لحساب الصدق وحده، فالصدق الفني هو معادل للصدق الحياتي، معادل للحقيقة ذاتها، إذ إن هذه الحقيقة هي جسد الكتابة ورئتها التي تتنفس بها، ولهذا فالكلمات عذاب، وإذا لم تكن كذلك كانت الكتابة «إشاعة» أخرى في العالم، وكذب لا يقل خطراً عن الكوليرا نفسه، الذي ينقله التاريخ قبل أن يفعل ذلك طين التاريخ.
أيها الكتاب هل لطمتكم الحقيقة مرة؟
عذاب الكلمات وكوليرا الكذب