طرح ملحق «الأربعاء» الثقافي الفني الصادر عن صحيفة «المدينة» السعودية سؤالاً استفزازياً على عدد من الكتاب والشعراء حول مجابهة الشعر وصموده أمام زحف التكنولوجيا، وكأن بالسؤال يبشر بزوال الشعر، أو بعجزه عن البقاء حياً.
وعلى أي حال، فإن في محاولة الذود عن حياض الشعر ومملكته السامية شيء من المتعة، لسببين: أولاً، لأن السؤال يبدو موجهاً للإنسان قبل الشعر، هكذا يلتحمان ويندمجان ويمشيان معاً حتى لا حدود بينهما: الشعر والإنسان. وثانياً، لأن القصيدة تنتهي من حالة كونها ملكية خاصة للشاعر حالما يطلقها في الفضاء، لتصبح بعد ذلك مشاعاً لكل الناس، لنا، مثل الهواء والماء والسماء والأرض والورود والرياحين والبحر، ويصبح لذلك كل الناس شعراء، إذ هم لا يقرأون القصيدة فحسب، وإنما يشاركون في كتابتها، أو يعيدون إنتاجها.
ولهذا فالدفاع عن الشعر، هو دفاع عن الإنسان.
الشعر ليس سيفاً نستبدله ببندقية، وليس ناقة نستغني عنها بدبابة، ولأنه كلام يفوق الوصف يتواجد في الزمان والمكان، في التاريخ الذي مر والذي يأتي، في الجغرافيا التي بلا حدود، فإنه يوجد وإن لم يتواجد الشعراء، ولهذا، وكنتيجة، فإنه ليس وارداً الظن بزواله، طالما هو حالة في الطبيعة، في الكون، في الإنسان، حالة يخلقها خفقان الروح ورعشة الفؤاد، حفيف الشجر وعواء الريح، وشوشة القمر وهمس الليل، اصطخاب البحر وضحك الشمس، لا حالة صناعية وتكنولوجية يبتكرها برود الدماغ وصقيع المختبر.
إذن، هل تستطيع التكنولوجيا أن تسحق الهواء، وتحطم الماء وتدمر الشمس؟
الشعر غير معني ولا مطالب بأن يقف في مواجهة تحديات العصر، هو ليس مدفع رشاش، ولا مكتب وزير ولا دار حكومة، هو ليس مطية يركبها الشعراء كي يواجهوا مطايا القبائل المعادية. الشعر تحرر منذ زمن من هذا الاستلاب، من هذا القمع التاريخي، ودخل في فلك حريته المطلقة، اصطف إلى حيث ينظر الإنسان إلى مجده المشروع. الشعر، إذن، وإن بدا كمن يدير ظهره للتحديات، فإنه لا يفعل ذلك عابثاً، لا مبالياً، وإنما ليواجهها بأدواته هو، بالصحو، بالبراءة، بالدهشة الأولى ليخترق قلبها وينفذ منها إلى حيث ساحات الحرية الحقيقية.
هذا هو سر الشعر بهاؤه وكبرياؤه. هذا هو جوهر كينونته وطاقة استمراره، ووقود حياته التي لا أول لها ولا آخر.
إغواء الشعر
خريطة الشعر العربي الآن تبدو مرتبكة، منكسرة في أجزاء منها، مبعثرة في أجزاء أخرى، ملطخة بالحيرة والتردد، على قدر تردد الإنسان العربي وحيرته وتبعثره وانكساره، لكن الشعر نفسه، الحقيقي الإنساني، داخل هذه الخريطة المشوهة، له حضوره المستقل نسبياً، حتى إن القصيدة نفسها التي تصدر عن شاعر مرتبك، منكسر أو محطم بعذاباته، تكون متمردة على شاعرها، تقاوم الانهيار، تكون نفسها، تقول ما يريد قوله الشاعر، والأهم تقول ما لا يريد أيضاً!
فلينكسر الشعراء ما شاءت لهم التحديات، لكن قصائدهم لا تنكسر، تتحداهم وتمعن في فضحهم. هي تتحدى عصرهم، هي الشاهد التاريخي حين يسقط التاريخ. إنها القصيدة التي تقود شاعرها وتجره إلى «اسطبل» المستقبل، أو إلى جنته ورحابته.
ولأن التكنولوجيا ليست حالة عربية، ولم تستطع بعد هذه الحالة العربية أن تكون تكنولوجية، فإن الشعر لم يتلوث بعد بالغبار ولا اسودت رئتاه بالدخان، وإلا، فلم كل هذا الشعر في الوطن العربي؟
كلما حاصرت التكنولوجيا «المستوردة» الإنسان العربي كلما تشبث بالشعر وتمسك به، وهرب إليه. هل لهذا ما يزال «القمر» عربياً على الرغم من أن أقدام الأمريكيين التكنولوجية قد استباحته؟ هو وجه الحبيبة، حلم الليل، وهو رغيف الخبز أيضاً (!).
التكنولوجيا التي لم نصنعها لم تصنع أحلامنا بعد. نحن نضخ الحلم في عروق القصيدة بعيداً عن ضجيج التكنولوجيا، ولهذا فالقصيدة تتألق وتشعل فينا النيران، وتزيدنا توهجاً وحضوراً.
هذه هي غواية الشعر، إغراء ساحرته الأسطورية، ولهذا لم ينته الشعر بعد.. فإلى الأسبوع المقبل.
إغواء الشعر
كل أحد – عبد الحميد أحمد