لاحظ زميل أن ولده يستغرق ساعتين على مائدة الغداء، فعرف أنه سيصبح موظفاً محترماً يتفوق في صفاته على ما نعرف من صفات موظفي هذه الأيام، في تعاملهم مع الوقت وساعات الدوام.
غير أننا نطمئن الموظفين بأن الحديث اليوم ليس عنهم، بل عن الأولاد من كل لون وصنف، خاصة وهم يتطورون بفضل التلفزيون والكمبيوتر، وبفضل الآباء والأمهات أيضاً.
فقد حاولت إحدى الأمهات، بعد أن لاحظت على ولدها أنه يكذب، أن تقنعه بأن الكذب عيب، فقالت له: عندما كنت صغيرة، لم أكن أكذب أبداً، رد عليها الابن: متى بدأت بالكذب إذن؟
أما أم أخرى: فقالت لابنتها، تحاول معها لكي تفتح شهيتها للأكل: كلي السبانخ كي تتلون خدودك، فردت الابنة: لكن لا أحد يحب الوجنة الخضراء.
فإذا كانت البنت في الحكاية الثانية تتعلم وتتثقف لمستقبل أيامها بمشاهدة مسلسل في التلفزيون كالمسلسل المكسيكي المدبلج، ومن قبله المسلسل البرازيلي وغيره من المسلسلات التي تعرضها محطاتنا، وأشهرها الجميلة والوحش، فتساهم في نهضتنا الحضارية بتعليم أولادنا الاتيكيت ووسائل الترفيه والمتعة وكل ما له صلة بالحضارة، على اعتبار أننا متخلفون ونحتاج لمثل هذه المعارف، فإن الولد في الحكاية الأولى، تعلم فنون الكذب من البيت، من أمه وأبيه، وبعد ذلك نطالب أولادنا بالاستقامة والمثل العليا والأخلاق الحميدة، فمن أين يأتي بكل هذا هؤلاء الأبناء؟
غير أننا نترك الحديث عن تربية هؤلاء للمختصين، ونذهب إلى سوريا لنضحك مع أولاد آخرين، تم تزويج ثلاثة منهم إلى ثلاث فتيات صغيرات، تتراوح أعمار العرسان بين أربع إلى عشر سنوات، كنوع من التقليد الأسري لضمان عدم تزویج الأبناء من خارج إطار الأسرة.
ولوحظ في الحفل أن الأطفال العرسان يتركون المنصة التي يجلسون عليها ليلعبوا مع بقية الأطفال، فأعادهم الأهل أكثر من مرة إلى مواقعهم، أما أنا شخصياً، فتصورت أن أحدهم رفع صوته صارخاً، وغطى بكاؤه على أصوات الطبول والموسيقى، ولم يهدأ ويسكت حتى تولت أمه تغيير البامبرز له، بينما لم يهدأ آخر من بكائه حتی ناوله أبوه حبة بمبونة أو شيكولاته، والأغلب وضع في فمه المصاصة لكي يستقر في مكانه وتمضي مراسيم الفرح على خير.
ولا نعرف إن كنا بعد حين، سيصل مستوى أولادنا إلى مستوى أولاد الأوروبيين في تطورهم السريع (مع أن العرسان السابقين فاقوا الأوروبيين)، فيحق لهؤلاء الاقتراض من البنوك مباشرة لشراء الشيبس والبفك والدغوس دون علمنا، فيما نحن ندفع للبنوك قروضهم وفوائدها، كما هو الحال مع أطفال ألمانيا الذين قرأنا مؤخراً خبرهم، أو يحق لهم الاستعانة بالمحامين فيشتكون علينا أمام المحاكم لأي سبب، ويكون علينا لزاماً دفع أتعاب هؤلاء المحامين وبحكم من المحكمة أيضاً، كما نقرأ ونسمع عن أطفال أمريكا وبريطانيا، ومنهم الطفل ماثيوس لوكاس الذي يطالب المحكمة هذه الأيام بإجبار أمه على مراسلته وقضاء أوقات أطول معه ومنحه عطفها ومودتها.
وما دام أطفالنا يتعلمون بسرعة من التلفزيون، وهذا ما شاء الله غير مقصر في بث المسلسلات التي تحضرنا وتجعلنا في مستوى العصر، فلا يستبعد أحدكم يوماً يجد فيه تبليغاً من المحكمة يطالب بحضوره أمامها، لأن سعادة الولد قدم شكوى عليه باعتباره كذاباً، أو لأنه يسهر خارج المنزل كثيراً فلا يراه ولا يراجع له دروسه، أو تجد أم نفسها أمام القاضي لأن معالي البنت اشتكت عليها كونها منصرفة إلى التلفزيون وإلى التلفون طوال الليل والنهار، تاركة إياها للخدامة الأوتوماتيكية، وهكذا.
ولو صار هذا، فلا معنى له سوى أن أولادنا يتولون تربيتنا بالحق والقانون، بعد أن تخلينا عن تربيتهم بالصدق والرحمة و… العصا، فيكونون على حق ولو كرهنا ذلك. 3/5/1993
عندما يتولى الأولاد تربيتنا