عبد الحميد أحمد

سخنوا الماء فطار الديك

لم نعرف بعد ماذا سيفعل المنكوبون بالدينار العراقي من فئتي الـ 20 والـ 50، التي قررت السلطات العراقية إلغاءها ومنعها من دخول العراق، وإن كنت أعتقد أن بعضهم، خاصة من الصرافين وكبار المتعاملين به، ممن يملكون منه ملايين، يلطمون الخدود الآن ويشدون شعرهم وشعر حريمهم أيضاً، ويندبون اليوم الذي فكروا فيه شراء هذا الدينار، على أمل أن يستفيدوا منه لاحقاً.

ففي الأردن وحدها، كما قرأنا حوالي مليار دينار، منها ستون مليوناً طارت في الهواء وأصبحت في خبر كان، وربما كان مثل ذلك الرقم في دول أخرى، مثل دولنا الخليجية، حيث ضارب عليه مضاربون ومتعاملون، مثلما هو الحال مع عملات أخرى عربية صار سعرها والتراب واحد، كالليرة اللبنانية والجنيه السوداني وغيرهما، مما يعني أن ضحايا هذه الكارثة كثرة كاثرة، ندعو الله أن ينجيهم من السكتات القلبية والذبحات الصدرية، لكي يعيشوا أكثر ويشوفوا أكثر.

غير أن هؤلاء، ومثلهم كل عربي آخر، لا يتعلمون درساً من الماضي القريب والبعيد ولو عاشوا عمر نوح، أو حتى عمر سلحفاة عجوز، فهم إن لم يخطئوا اليوم أو غداً، فإنهم يتبعون كل مخطئ ولو ساقهم إلى جهنم.

فإذا كان نظام مثل النظام العراقي لم يحترم المواثيق والمعاهدات، ولا الجيران والجوار والأقارب والأشقاء، ولا حتى مواطنيه، فنكل بجيرانه أولاً، من إیران إلى الكويت، ونكل بالمواطنين العرب عنده والأجانب، کم فعل مع العمال المصريين والرهائن الغربيين، ثم التفت إلى مواطنيه في الشمال والجنوب فضربهم بالكيماوي والجرثومي، ومارس كل خروج غیر معقول على قوانين الأرض والسماء، إلى آخر ما تعرفون من ممارسات لا یزال كثير منها مستمراً لا يكاد يصدقها عقل عاقل، فكيف يحترم نظام كهذا عملته والمتعاملين بها، فيرد لهم حقوقهم، كما تفعل أي دولة متحضرة حين تقرر تغيير عملتها وسحبها من الأسواق؟

إلا أننا لا نريد اليوم أن نزيد على هؤلاء المنكوبين بالدينار، الذين سخنوا الماء فطار الديك، هماً على ما هم فيه، ولا ضغثاً على إِبالة، فينتحر بعضهم غماً وكمداً، حيث شربوا مما شرب منه آخرون قبلهم، ونحاول بدلاً عن ذلك التفكير معهم لعلنا نجد لهم مخرجاً مما هم فيه.

وأول ما يخطر على البال أن يتجمع هؤلاء ويشكلون فيما بينهم نقابة أو منظمة، يطلقون عليها اسم «ضحايا بلا حدود»، على شاكلة منظمات «أطباء بلا حدود» و«مراسلون بلا حدود» وغيرها، ويمكن أن يفتحوا العضوية فيها لآخرين، كضحايا الريان والشريف والسعد والاعتماد والتجارة، ثم يرفعون قضيتهم إلى الأمم المتحدة، فهذه جاهزة لاتخاذ عقوبات جديدة ضد العراق، لحين رد أموال هؤلاء وتعويضهم، حالهم في ذلك، حال ضحايا غزو الكويت والمتضررين منه.

ولكي تظل قضيتهم ماثلة للعيان، فلا تزول وتتلاشى كما حدث مع قضايا أخرى، اقترح عليهم إقامة نصب تذكاري ضخم تتصدره لوحة كبيرة للدينار العراقي، في مكان حر ومحايد، کالهایدبارك في لندن، لكي يذكر العرب خاصة بمحنتهم.

وبما أننا نعرف أن هؤلاء لن يطولوا فلساً أو تعريفة، أو حتى شعرة، لأن غيرهم كان أشطر، فربما كان مجدياً أكثر لهم أن يحاولوا بيع دنانيرهم على اعتبار أن ورقها من النوع السويسري المحترم، لمحلات البقالة ومطاعم الشاورما والفلافل، فلعل هؤلاء يقبلون بها من باب أنهم يطورون خدماتهم للزبائن، فيلفون لهم سندويتشاتهم بالبنكنوت.

أما إذا فشلت هذه المحاولة، فلا يبقى أمامهم سوى الاحتفاظ بأوراقهم لحين الشتاء، فيطعمونها للنار لكي يتدفأوا عليها، وبهذا تكون على الأقل قد أفادتهم في شيء، غير أنه عليهم قبل كل ذلك أن يتعلموا الدرس، فلا يلدغوا من جحر مرتين، لولا أنهم، ومعهم كل عربي، لا يتعلمون.    8/5/1993

سخنوا الماء فطار الديك

عبد الحميد أحمد

جيوب أنفية لإحلال السلام

مع الناس 4