عبد الحميد أحمد

احتضار لا انتظار

قالت أمس دي دي مایرز المتحدثة باسم البيت الأبيض، إن البوسنة الآن في حالة انتظار، وخلتها أول الأمر، تقصد أن البوسنة في حالة احتضار، وهي لو استخدمت هذه الكلمة لأصابت أكثر.
ولعل دي دي (يذكر اسمها الشباب بخالد ديدي، فهو عندهم أشهر من كلينتون نفسه) كانت تنوي استخدام الكلمة الثانية، الصحيحة، فتراجعت في آخر لحظة، وهي تتحدث للصحفيين عن إرجاء واشنطن للتدخل العسكري، فاستبدلتها بكلمة انتظار، ففقدت جملتها كل معنى.
ذلك لأن البوسنة في حالة انتظار منذ زمن بعيد، أما الآن، ومع تردد البوليس الدولي وحلفائه في إنقاذها فهي دخلت طور الاحتضار، ولم يتبق غیر إعلان الوفاة، وتحرير شهادة بها، وتجهيز الأكفان وإقامة مراسم الدفن، وهي أمور ربما تم الإعداد لها منذ زمن بعيد.
فواضح حتى الآن، أن الغرب لا يريد تقديم أكثر من العقوبات، التي ثبت عدم جدواها ضد الصرب، وأن ثمة وقتاً طويلاً يمضي عند الحديث عن إجراءات إضافية كالتدخل العسكري، يكفي لإسالة المزيد من الدماء، وتحقيق انتصارات صربية على حساب المسلمين الذين يتراجعون، ويستسلمون بلدة بلدة، وقرية قرية، حتى لا يعود لهم مكان في أرضهم، ربما باستثناء مقابر تحت الأرض، فذلك حدهم.
وتفاءلنا مؤخراً بالموقف الأمريكي، الذي شدد عليه بیل کلینتون، بضرورة استخدام القوة لردع الصرب عن جرائمهم، وتحدثت واشنطن عن خطط عسكرية للتدخل، إذا رفض الصربيون خطة السلام، غير أن واشنطن تراجعت وترددت، لأن شركاءها الأوروبيين لا يزالون مترددين، مستكثرين على المسلمين أن يكون لهم ربع دولة في أوروبا، حيث الديمقراطية وحقوق الإنسان، على نحو ما يدعون ويزعمون ويرددون بأعلى صوتهم.
الأغرب من ذلك، أن الأوروبيين صاروا ينتظرون من الجلادين حلاً، فأولاً انتظروا قرار برلمان صرب البوسنة على خطة السلام، فرفضها بلا تردد، ثم إنهم ربما ينتظرون الآن، الاستفتاء المزعوم الذي لن تخرج نتيجته عن نتيجة البرلمان، ثم إنهم صدقوا جلاد يوغسلافيا ميلوسيفيتش الذي ادعى قطع المعونات عن صرب البوسنة، مع أن هذا موضوع على رأس قائمة المطلوبين للعدالة باعتبارهم مجرمي حرب.
ولا نعرف، ماذا كان يمكن أن يكون مصير الكويت، لو أن الغرب، عند احتلال العراق، استجاب لمطالب النظام العراقي، حين صوّت برلمانه على ضم الكویت، أو لو أنه سمح له بطرح الأمر لاستفتاء شعبي، ثم وافق على النتائج، على نحو ما يجري حالياً مع مأساة البوسنة، ما يجعل هذه المأساة هي التحدي الحقيقي لمصداقية النظام العالمي الجديد، لا غزو الكويت وتحريره فحسب، فالجلاد، أياً ما يكون، لا ينبغي أخذ رأيه، خاصة وأننا مازلنا نتذكر، ونؤيد بلا تردد، مقولة عدم مكافأة المعتدي، فلماذا يريد الغرب، بتردده وإطالة محنة البوسنيين هذه المرة، مكافأة الصرب، مع أن هؤلاء كافأتهم خطة السلام، بما لا يستحقون؟
غير أننا، ما دمنا ننتظر حلاً من الغرب، نكون كمن يتعلق بقشة، فتخلي عالمنا العربي والإسلامي معاً، عن ممارسة دوره الضاغط في هذه القضية، يجعل منها مجرد قضية غربية، لا تعنينا كثيراً، فيما هي قضية دولية، وإنسانية، يكفي أن فيها بشراً يذبحون وينحرون وتسيل دماؤهم أطفالاً ونساء وشيوخاً تحت أعين العالم الذي يشاهدهم كل مساء على شاشات التلفزيون، كل جريمتهم أنهم أرادوا إقامة دولتهم المستقلة مثل غيرهم، وهو عجز كما هو واضح بلغ بالعرب والمسلمين حداً من الهوان، جعلهم ينتظرون الغرب لإنقاذ المسلمين بالنيابة عنهم، فيما هؤلاء ينتظرون حلاً من السفاحين، أما المسلمون فيحتضرون، لا ينتظرون.

12/5/1993
جيوب أنفية لإحلال السلام

عبد الحميد أحمد – احتضار لا انتظار