عبد الحميد أحمد

الصحافة العربية في ثلاثين عاماً إعلام واتصال

«الصحافة العربية في ثلاثين عاماً» عنوان يقودنا بالضرورة والقياس إلى العام 1974، لننظر منذ ذلك العام وإلى اليوم في حال الصحافة العربية وتجلياتها، إذ كانت لها تجلياتها، وتقلباتها، ومآسيها، ونكساتها، وأزماتها، وما أكثر كل هذه، وأيضاً في التحديات التي تواجهها اليوم.

طبعاً العام 1974، في النصف الثاني من القرن الماضي من التاريخ العربي المعاصر، هو العام التالي لأول انتصار عربي غير مكتمل على إسرائيل، وهو العام الأول لاندلاع الحرب الأهلية الشرسة في لبنان، وهو العام الذي تلته من الأحداث الإقليمية والعالمية الجسام ما جعلت الوطن العربي برمته يترنح تحت ضربات هذه الأحداث، وفي قلب هذه المعمعة، حتماً كانت الصحافة العربية تترنح هي أيضاً أغلب الأوقات، وتصارع من أجل البقاء، أغلب الأوقات، وتحاول أن يكون لها دور في أغلب الأوقات، ودفعت الثمن في أغلب الأوقات.

وفي داخل هذه الأجواء والأوضاع، وكذلك مع الأوضاع الداخلية المتردية لكل بلد عربي على حدة، فإن الصحافة العربية لم يكن لها أن تكون بأحسن مما هي عليه الآن، حيث لا استقرار ولا أمن، وحيث لا حرية ولا تقدير، وحيث الضغوط عليها في تزايد، فكيف يمكن للصحافة أن تزدهر وتتقدم وهي تحارب من أجل البقاء؟!

ولنؤشر هنا سريعاً إلى ما جرى من أحداث إقليمية وعالمية لتكون خلفية مناسبة للمشهد الصحفي العربي، فهناك أولاً الطفرة الهائلة عقب حرب حزيران يونيو 73 في الدول النفطية الخليجية وغير الخليجية والتي عادت على هذه الدول بعائدات نفطية كبيرة، ثم هناك اندلاع الحرب الأهلية في لبنان والتي استمرت زهاء 15 عاماً، ثم معاهدة كامب ديفيد وتأثيراتها على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، ثم سقوط نظام الشاه في إيران عام 79 وانتصار الثورة الإيرانية وقيام أول جمهورية إسلامية في المنطقة، ثم غزو أول عاصمة عربية عند اجتياح القوات الإسرائيلية للبنان عام 82، وطرد المقاومة الفلسطينية منها، وما بينهما اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، ثم غزو الكويت في العام 90 وتحريره، ومحاصرة العراق حتى سقوط نظامه المريع واحتلاله من قبل القوات الأمريكية في أبريل العام الماضي، ثم هناك مؤتمر مدريد للسلام وانعكاساته ومعاهدة أوسلو، ثم هناك السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي سابقاً، وسور برلين، وتفتت دول الكتلة الشرقية … والمزيد … ضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك وتفجر الحرب على الإرهاب، هذا عدا العديد من الأحداث الداخلية العربية والعالمية من التي ألقت بظلالها الثقيلة على أداء وممارسات الصحافة العربية والصحفيين العرب.

في ظل هذا المشهد المتفجر من الأحداث الكبيرة المتتالية في ثلاثين عاماً، كان على الصحافة العربية أن تكون حاضرة، وأن تلعب دورها المنشود، وبما أن الصحافة العربية لم تكن تملك مقومات النجاح وأدوات العمل، من حرية وتعبير إلى الاستقلالية عن أجهزة الحكم العربية، ومروراً بالقدرات المالية التي تمكنها من ممارسة عملها خارج الضغوط وانتهاء بالقمع الذي مورس عليها، فإن مجرد بقاء هذه الصحافة على قيد الحياة اعتبره انتصاراً لها.

غير أن هذا الانتصار ما كان ليتم من دون ثمن باهظ، أحياناً كان دماً ودموعاً، ومن دون تنازلات باهظة أحياناً، جعلت الصحافة تلعب دور المشاهد والمؤيد إيثاراً للسلامة، لا دور الناقد والكاشف والمشارك في صنع الأحداث.

ويمكن تقسيم المشهد الصحفي العربي إلى ثلاثة مشاهد رئيسية في العالم العربي نسبة إلى الأوضاع السياسية المحلية، فهناك الصحافة الأيديولوجية التي انخرطت في الدعاية لأنظمة حكم وطنية وقومية على أثر تصاعد وتيرة الخطاب القومي السياسي وبروز الأنظمة السياسية ذات الأطر العقائدية، «وفي داخل هذا المشهد يمكن إضافة الصحافة الحزبية أيضاً» فتخلت هذه الصحافة عن فن المهنة الحقيقي لصالح الخطاب السياسي وصارت أداة للسلطة، وهي لا تزال كذلك في كثير من البلدان العربية.

في المشهد الثاني نرى صحافة انعكست عليها آثار الطفرة النفطية، فتطورت تقنياً ومهنياً إلى حد ما، وإن ظلت في أغلب دول الخليج وخارجها صوت حكوماتها، ولم تتمكن بعد من تقديم نفسها كصحافة مستقلة غير تابعة أو خاضعة بفارق دول تمكنت فيها صحافتها من أن تنال حظاً أوفر من الاستقلالية، كما هو الحال في الكويت.

في المشهد الثالث نرى صحافة استفادت من توفر أجواء الانفتاح والديمقراطية، فتطورت مهنياً وتقنياً وتفاعلت مع الأحداث ومحيطها وقرائها المستهدفين، بطريقة جعلت منها صحافة تنبئ بالكثير في المستقبل وتعد بما هو أفضل مما كان من حال الصحافة العربية، ومن ضمن هذه نؤشر إلى صحافة المهجر وصحافة دول ظلت الديمقراطية هاجسها وإن شهدت انتكاسات كلبنان والكويت في المسار الديمقراطي، إلا أن صحافتها ظلت حية وأكثر استقلالية ونمواً من غيرها.

وإذا كانت صحافة المشهد الأول: أي صحافة الخطاب السياسي في حال احتضار مهني حقيقي، فإن صحافة المشهد الثاني أي صحافة الطفرة النفطية، لديها من الإمكانيات المادية ما يوفر لها مستقبلاً مشرقاً، خاصة مع تصاعد وتيرة الرغبة في الإصلاح في المنطقة، والتي من أولوياتها بلا شك منح الصحافة شيئاً من الحرية والاستقلالية.

أما في المشهد الثالث: صحافة ما أسميناه أجواء الديمقراطية، فإنها وإن تعرضت لمضايقات وانتكاسات وتهديدات، فإنها إنما دفعت ثمن مواقفها، وهو عادة ما تفعله كل صحيفة حرة، تدافع عن وجودها واستقلالها، وحرية دورها المعرفي والسياسي والإعلامي، وأمام هذه ثمة تحديات مستمرة، على رأسها ضمان استقلالها السياسي عن طريق استقلالها المالي، من ضغوط معروفة عادة ما تلجأ إليها جهات التمويل سواء كانت سياسية أو تجارية، داخلية أو خارجية.

في داخل هذا المعترك السياسي وفي أجواء هذه المتغيرات الإقليمية والعالمية شديدة الوطأة يمكن القول إن الصحافة العربية فقدت الكثير من تأثيرها وارتباطها بالقراء، ذلك لأنها إما وجدت نفسها طرفاً في هذا المعترك، سواء لجهة تمثيلها لحكوماتها، أو أحزابها، أو قواتها، مما فرض عليها قيوداً، وفرض عليها مواقف بعيدة عن اهتمامات الناس وقضاياهم الحياتية، فكان انشغالها الأساسي بالهم السياسي، الداخلي والخارجي، على السواء على حساب تطور دورها وأدائها وعلى تطور المهنة أيضاً، مما أفقدها المصداقية على الدوام، فكان لجوء القراء إلى الوسائل الإعلامية الأخرى، خاصة الغربية منها، مصدراً لتلقي الأخبار والتحليلات، فيما ظلت الصحافة العربية في أحسن الأحوال أبواقاً لإذاعة البيانات والخطب والاجتماعات الرسمية والرد على الاتهامات والدخول في المماحكات السياسية وغيرها.

رئيس تحرير (جلف نيوز) الإماراتية

الصحافة العربية في ثلاثين عاماً إعلام واتصال