مقدمة :
إن النخلة أخذت مني عهداً ألا أحكي ما قالته للبحر لأحد، إلا أنني اليوم أجد نفسي مضطراً لكسر العهد فأنتم ربما يهمكم جداً معرفة ما قالته، والآن، وبعد أن فات على ذلك ما يقارب عشرة أعوام، أعتقد أن حديثها للبحر يجب ألاّ يظل حبيس صدري وحدي.. وبداية دعوني أعترف، أنني تجرأت وخرجت عن الآداب العامة، حيث سمحت لنفسي أن أتلصص على النخلة وهي تروي للبحر الحكاية، وقد كتمت ما سمعته زمناً حتى ضاق به صدري وصار لا مفرَّ من البوح، ويدفعني اليوم شعوري أنه لربما يدهمني موت مفاجئ، فلا يصلكم ما قالته النخلة للبحر مطلقاً، فالموت في هذا الزمن كثير و .. بالمجان أيضاً.
ليلة وشاهد عيان :
في ليلة لا قمر فيها ولا نجوم، مالت النخلة الوحيدة إلى الشاطئ، وأخذت تقص ما رأته وسمعته وعاشته، قالت والبحر هادئ يستمع في وقار :
ـ كانا يجيئان تحت ستر الليل بعد أن ينام الناس وتهمد الحياة في القرية ويقفان تحتي.. يتحدثان ويتناجيان وأنا أنصت لحديثهما في خشوع ورهبة حتى ظننت أنهما ملاكان أو جنيان فأحببتهما لصدقهما، سوف أروي لك حكايتهما، وسأودع فيك سرهما تحفظه في قراراتك مصوناً.
(في تلك اللحظة أذكر أن هاجساً دفعني ناحية البحر.. وقد شاءت الصدفة أن أكون على مقربة من النخلة، فجلست على الرمل متستراً بالليل أستمع رغم ما خالجني من شعور بأني أقحمت نفسي لأتسمع أسراراً).
مضت النخلة تقول :
في أول ليلة أتيا قال لها :
– تعلمين يا سلمى كم أتعذب، ولولا حبك الذي يربطني إلى هذه الحياة كجذور هذه النخلة لكنت في عداد الميتين.
قالت وعيناها تهطلان :
– ولكن الأمور جرت على غير ما كنا نشتهي.. أنا اليوم في عصمة رجل آخر يا سالم.. هكذا أرادوا لي، ولولا حبي لك لما تكبدت مخاطرة المجيء إليك كل ليلة.
– تذكرين حين جئت أباك خاطباً، ردني قائلاً: إني لا أعدو بحاراً لا يملك إلا إزاره، وهكذا صرت زوجة للنوخذا.
قالت له سلمى وقلبها يخفق ووجهها غارق في الحزن :
– … ورغم ذلك سيبقى قلبي وأنا لك إلى الأبد.. ثم وهي تبكي وبصوت متصدع فيه حشرجة وأنين:
– وهل أنسى أيام كنا نلعب فوق “السيف” أنا وأنت وشيخة وخلفان ومريم و …. قال لها شامخاً حالماً :
– إسمعي.. غداً موعد رحيلنا .. وسيكون نوخذانا هو زوجك، ولك مني قسم ، لعينيك الحلوتين أن أحدنا لن يعود .. أنا أو هو .
أخذتها رعدة خوف فقالت باتلة :
– إن لم تعد سوف أقتل نفسي.
– في العام الماضي حين خبأ خلفان لؤلؤة رآه النوخذا، وعقاباً له حرق صدره وظهره بالنار.. إني لا أزال أذكر خلفان وهو يتلوى صارخاً من الألم.. ما أبشع هذا يا سلمى!
رحيل وموت :
بعد ذلك رحل سالم إلى أعماق الخليج، وظلت سلمى تأتي كل ليلة تتذكره وتحسه قريباً منها فيأخذها بكاء. بعد شهور أربعة عاد الغواصون، ولكن سالماً لم يعد، وعرفت من سلمى أن زوجها طلب منه أن يغوص مرة، بينما كان مريضاً لا علاج له، وسط البحر والحريق، ولكنه أصرَّ، فغاص ليبقى تحت الماء طويلاً ولما أخرجوه وجدوه نصف جسد.. فعاد النواخذا ورماه إلى الماء والسمك مرة أخرى، رغم توسلات رفقائه.
وهنا سمعت البحر يخرج من صمته ويقول :
– إني أذكر ذلك .. رموه إليّ، وقد وجدته بلا ساقين ولا عينين فاحتضنته في القاع حتى ذاب في الماء والرمل، ولو كنت أعلم أن هناك من ينتظره لكنت قذفت به إلى الشاطئ.
(وتحرك البحر فتغير هدوؤه إلى موج يصطخب). قالت النخلة للبحر :
– هوّن عليك ، فلست من تعاتب، فقد سمعت سلمى ذات ليلة وقد قتلها الحزن والكمد تدعو الله وتتضرع :
– اللهم انتقم من زوجي النوخذا الذي حاصر أبي حتى سلبني من سالم وسلمني له، والذي عاد وقتل سالماً.
– ولكنها يا بحر لم تقل عنك شيئاً، وفهمت منها أن أباها كان مديناً للنوخذا ولما لم يستطع أن يسدد الديون طلب منه أن يزوجه سلمى، فتم له ما أراد.
ولادة في ليلة حب :
شدني كثيراً حديث النخلة التي راحت تقص للبحر في شيء من الألم والعذاب، فأصررت على الاستماع حتى النهاية. وقالت النخلة للبحر :
– سأروي لك سراً أرجو أن تحفظه بين ثناياك وألا تلقي به إلى الشاطئ أبداً.
قال البحر بعد أن عاوده الهدوء فاستلقى عند أقدام النخلة آمناً :
– قولي، فلولاك ما عرفت شيئاً عن هذه الأرض.
– في ترددهما – أقصد سلمى وسالماً- عليّ لم تخل جلساتهما من مبادلة الود ببراءة ولكن.. وقد جرت الأمور كما يرغب قلب الأيام وكما تشتهي أشواقهما المعذبة فسأقول لك ما جرى ذات ليلة:
كانت السماء صافية يلمع فيها قمر ضاحك، ولكن سلمى كانت ساهمة الطرف وحزينة، أما سالم فكان غاضباً ساخطاً، لكن في قلبه ضجت الأشواق.
قال لها :
– أنت رائعة الجمال يا سلمى مثل هذا القمر، وحزينة مثل هذه النخلة الوحيدة في هذه الصحراء.
ردت عليه وقد احمرّ خدّاها وارتعشت أجفانها:
دعني أحملق في عينيك وأحلم بنجوم تضيء في سماء غير سمائنا.
في لهف وارتعاش أمسك أصابعها، فارتعشا، ثم غابا، ثم سقطا على التراب. وأنجبت منه ولدا أسمته سلمى، كما سمعت منها فيما بعد ، سعيد.
– كانت سلمى فخورة به، وسعيده لتلك الليلة حتى رحل بعدها سالم إليك ولم يعد، فماتت بعدها همّاً وحزناً.
النخلة تقرأ الأيام :
كانت أياماً رائعة على ما فيها من قسوة وعناء، وقد أحببت سلمى وسالماً كثيراً لكونهما متحابين بينهما عشق مثل عشقي للتراب والأرض التي تعانق جذوري في دفء أبدي غامر.
ولكني يا بحر صرت اليوم خائفة، لا يغمض لي جفن، ولا يرتاح لي بال، لقد ولّت أيام الراحة والأمان.
– لِمَ؟
سألها البحر وأعطاها كله كي يفهم ما تقوله.
قالت النخلة للبحر :
– الأرض كانت ملأى بالنخيل والثمر رغم أنها كانت عطشى يكاد يخنقها الجفاف، ثم في سنوات معدودة كالبرق مرت وجدت نفسي وحيدة، لا يفرج غمي إلا هذان العاشقان الحميمان، لكنهما سرعان ما رحلا مع النخيل التي رحلت إلى بطن الموت. لقد جاء خراب ودهمنا ذعر على حين غرة.
– من أين يا نخلة .. وكيف؟
– لقد وجدوا فيك نفطاً كثيراً.
صرخ البحر باحتجاج :
– فيه نفع للناس لا مضرة .
– ينفع حيث هم نافعون.
ثم بعد فترة صمت لا يتردد فيها إلاّ نسيم البحر وأنفاسي قالت :
– ما أتيت اليوم أحكي لك إلا كي تحفظ وتفكر، أنت قوي يا بحر، ولا يستطيعون إماتتك مثلما فعلوا بنا. إن قلبي تفطّر حزناً على سلمى وسالم، والأكثر ألماً أن ابنهما سعيد صار غريباً لا أعرفه ولا أدري أين هو، يقولون إنه يعيش في المدينة، ولكن التعرف عليه صعب .. فَقَدْ فَقَدَ أشياءً كثيرة .
أعرف أني أطلت عليك ولربما سببت لك حزناً، سأودعك الآن، وإذا لم أعد إليك مرة أخرى فاعرف أني لحقت بعالم سلمى وسالم، ورجائي أن تحفظ ما قلته لك سراً إلى الأبد.
ثم صارت النخلة تهزّ جذعها هزّاً عنيفاً (لعلها كانت تبكي) حتى هدّها التعب فهمدت.
حديث قبل الخاتمة :
دعوني الآن أعرفكم بنفسي بعد أن أخبرتكم بالحكاية.. أنا شاب أعمل موظفاً براتب أسكن وحيداً في منطقة تعج بالصخب والضجيج. حولي بيوت متناثرة كثيرة يسكنها هنود وباكستانيون وكوريون وآخرون لا أعرف أوطانهم، وكانت حياتي سهلة ولينة. حين أُنهي عملي أضطجع لساعات بعد الظهر، وفي الليل أسهر حتى مشارف الصباح مع لفيف من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم بالصدفة وحدها.
فكرت في الزواج، لكن أحوالي المادية لم تسمح لي بذلك فقررت أن أبقى وحيداً أنعم بوحدتي التي لا يعكر صفوها شيء حتى تجسست على النخلة ذات ليلة فصار حديثها يعذب مهجتي وضميري. وأذكر أن النخلة بكت واستحلفتني بعد أن عرفت أني سمعت حكايتها ألا أرويه لأحد. ولكن حديثها عذبني حتى قررت أن أبوح به، وها أنذا أفعل لأول مرة لعله يعذبكم أيضاً فتعرفون ما عرفت، فهو سِرّ للإفشاء أصلاً على عكس ما كانت تتصور النخلة.
لكن الذي لم أفهمه هو خوف النخلة، ورغم أني لم أرَ نخلة ذات جدوى هذه الأيام إلا أن خوفها شغلني، وحين وقفت ذات ليلة على جزء من الساحل لمحت لهيباً يرسل أنواره من ناحية البحر العميق المظلم وكأن تنيناً ضخماً فتح فمه وصار ينفث ناراً أو حرائق ، فتساءلت :
هل يمكن أن يكون هو السبب ؟ وهل البحر موبوء كما هي الأرض؟
الابن الذي اكتشف نفسه فصرخ محتجاً :
وقبل أن أنهي رواية ما سمعته وعشته، دعوني أقص عليكم ما جرى لي من أمر :
خرجت ذات ليلة من أحد الأماكن الموبوءة، مفعماً بالسكر، وكنت قد دأبت في الآونة الأخيرة على التردد إليها هرباً من الوحشة والخوف، وبحثاً عن أمر ما يجول في خاطري الذي عذبه الشك، وأعرف أني قد أسأت طريق البحث، ولكن العملية أضنتني حتى أوشكت أفقد حرارة اليقين في تكويني. في تلك الليلة فتشت في وجوه الناس أبحث عن نفسي، كانت وجوهاً غريبة وأصواتها مثل القعقعة في علبة صفيح، فعاودني فجأة حديث النخلة للبحر حتى اكتشفت أمراً. أنا (سعيد) ! سعيد الذي تكوّن ذات ليلة حب قمراء حنون تحت النخلة. (سعيد) الحزين الوحيد الغريب .
اندفعت راكضاً ناحية البحر في جنون باحثاً عنها. النخلة ! لم أجدها .
صدقت نبوءتها إذن!
شعرت بحزن قاتل يفتك بصدري وأنا أتذكر أبويّ سلمى وسالماً اللذين ما رأيتهما في حياتي قط وداهمني إحساس بالرعب يلف كياني، وفي ذعر رحت أصرخ في البحر المستلقي بهدوء قاتل حتى ذابت صرخاتي في الماء وتلاشت في الهواء والليل، فانكفأت راجعاً متعباً مهموماً ووحيداً يبلعني ليل غامض لا نجوم فيه.
الخاتمة :
ملاحظة : “كان المفروض أن أكتب هذه الخاتمة بعد قرن، قرنين، ثلاثة قرون، أو أكثر من كتابة هذه القصة” . (عبد الحميد ..).
جلست الجدة في مكان ما تحكي للصغار وهم يستمعون في شغف، قالت لهم :
– كان يا ما كان في زمان غابر وقديم، قوم بنوا مجداً في بلادهم. كانت بلاداً عامرة بالرخاء لسنين طويلة، لكن الأخطار تكالبت عليهم من الداخل قبل الخارج، ودبَّ الفساد ينخر في الكيان الشامخ مثل السوسة في جذع الشجرة، ولما جاءت أول ضربة من الخارج هوى وصار آثاراً ومزاراً ومبكى.
وهنا هتف طفل قاطعاً حديثها :
– ألم تقل أم لولدها يوم اقترب الانهيار : إبك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال، هكذا يعلموننا في المدارس إذا كانت هي الحكاية ذاتها يا جدتي.
قالت الجدة :
– ما دمتم تعرفون القصة، اذهبوا للنوم إذن، وغداً سأقص عليكم حكاية أخرى لا تعرفونها، وتثاءب الصغار، وسكتت الجدة.
في ليلة الغد جلست كعادتها وحولها الصغار. قالت تقص عليهم :
– قد تصدقون يا أولادي إن النخلة تتحدث وقد لا تصدقون، ولكن في ذات يوم حكت نخلة للبحر حكاية سأرويها لكم لترووها بدوركم لزملائكم.
صاح الصغار وقد ازداد شغفهم :
– قولي أيتها الجدة الغالية .. هيا.
قالت الجدة :
– كان يا ما كان في قديم الزمان، نخلة وحيدة. وفي ليلة لا قمر فيها ولا نجوم مالت إلى الشاطئ .
قالت النخلة للبحر …
قالت النخلة للبحر
السباحة في عين خليج متوحش