10

عطــش النخيــل

في الواحدة والنصف خرج من مقر عمله في إحدى الوزارات، انطلق بسيارته القديمة التي لا تخفي أنين مفاصلها ولا تَوجُّع أحشائها.. رغم الصوت المزعج المنبعث من محركها شعر بحنو عليها .. هذه الآلة احتملت أربع سنوات، تماماً كما احتمل هو العذاب والقهر اليومي منذ تخرجه.

في الطريق المليء بالسيارات وقت الظهيرة، شعر بالجو خانقاً يكتم الأنفاس، والرطوبة تتسلق بدنه حتى مشارف وجهه  وعينيه.. بحركة اشمئزاز فتح النافذتين الأماميتين بحثاً عن هواء، وحين وصل إلى الطريق المؤدي إلى بيته الواقع في أحد الأحياء الشعبية السكنية،  أحس بنسمة هواء تداعب وجهه حيناً، وتختفي حيناً آخر، ليزداد ثوبه  التصاقاً بظهره.. حكّ رأسه تحت (العقال) وأحس أن شعره مبلل رطب، مثل الأعشاب النامية في مستنقع لزج.

البيوت على جانبي الطريق تتخذ أشكالاً وألواناً تدل على ترفٍ لم يكن يحلم به .. لمن هذه البيوت؟ مشوار القهر الذي يمارسه يومياً وهو ذاهب أو قادم من عمله يجعله لا يفكر في شيء… أكثر من إحساسه بوخز الإبر في قلبه، فيصمت ويودّ لو يستطيع أن يحطم ويتحطم.

تسللت الرطوبة إلى عينيه فراح يمسحها بطرف (غترته) تجاوزته سيارة  طويلة أمريكية الصنع، يقودها رجل، وبجانبه حسناء شقراء  تضع على عينيها نظارة أنيقة وتجلس باسترخاء تام. كانت نوافذ السيارة مغلقة تماماً، فازداد شعوره بحرارة الجو والرطوبة التي تفتك ببدنه، وفي داخله تكورت غصة راحت  تنتفخ وتنتفخ حتى  انفجرت  عن أنَّة جريحة. انطلقت السيارة الأخرى مسرعة مبتعدة عنه، تابعها  بنظراته التي يغبشها العرق حتى اختفت.

أربع سنوات.. ولم يتغير شيء كما كان يتوقع.. الكرسي الذي يجلس عليه في العمل يأكله ببطء شديد،  ويأكل معه أحلامه في حياة أفضل.

مات أبوه قبل أن ينهي دراسته الجامعية، فازدادت أحواله سوءاً، فقد كان يحلم أن يعوض أباه عن جزء مما فعله لأجله، تذكّره، فرآه عظماً يكسوه الجلد ، كم تحمّل  هذا الأب شقاء الحياة  لأجله!  البحر .. السفر والغوص وما بينهما من عناء وحَيْن. اقترب إلى المستقبل الذي يرسمه له ابنه.. فارق الحياة.

قال في نفسه : “أي مستقبل هذا ؟ كل شيء كما لم نتمنّه”. رأى أمه .. الوحيدة المتبقية له، شعر بحزن لحالها.. لم يستطع إطلاقاً أن يقدم لها ما يريحها، البيت – أسوأ مما كان عليه سابقاً أيام كان أبوه يرعاها – مثل جحر يؤويه وأمه.

أربع سنوات بعد تخرجه، الكرسي يأكله ومتطلبات الحياة لديه تتصاعد ، ولا يستطيع أن يحلم في مستقبل جديد.

ماذا قالت أمه عندئذ؟

– العمر يمضي يا ولدي ولن أبقى لك طويلاً.

وبعد أن سعلت وبصقت ودمعت عيناها واصلت :

– شيّد لك حجرة أخرى في البيت.. ودعني أجد لك بنت الحلال تعيش وإياها في سلام.

كاد يضحك من كلامها الذي رتبه على نحو آخر “شيّد لك جحراً وجد لك بنتاً تكن أماً لك”.

كان يتمنى لو يستطيع أن يحقق لها ما تحلم به.. زوجة يستخرج منها  أولاداً يكبرون لتراهم قبل  موتها.. قال لها :

– حتى تتحسن الأمور .. علينا أن ننتظر قليلاً.

ودام الانتظار سنين أربع .

الشارع أمامه يمتد، والقهر يمتد، ويشتد معهما غضبه… ردد في داخله بيت شعر لشاعر خليجي لم يتذكر اسمه “دوّر لجرحك دوا ما من دوا ببلاش”. كانت الشمس تنعكس على الطريق لتغزو أشعتها عينيه، وحين التفت على جانبي الطريق رأى البحر يستلقي في الجانب الشمالي يحجبه أحياناً وجود فيلاّت حديثة على شاطئه. شدّه منظر زجاجها وبواباتها الواسعة، وعلى الجانب الآخر رأى بقايا نخيل في طريقها للاندثار.. وحين اقترب من أحد  الأحياء السكنية  التي تغشاها الكآبة، شعر أنه ظمآن وجوعان، أبطأ في سيره حالماً.. رأى حشداً من الأهالي يتجمعون حول سيارة لم يستطع رؤيتها، بينما  صخبهم يعلو وصراخ ما يتعالى.. أوقف سيارته.. اقترب من الجمع، أدرك أن السيارة هي ذاتها التي تجاوزته منذ فترة وزادته شعوراً بالحرارة و… الغضب.

كان رجلان يمسكان بالأجنبي وثالث انهال عليه صفعاً ولطماً، والمرأة الشقراء جلست تبكي..

– ماذا جرى ؟

أجابه واحد منهم والغضب يتدفق من عينيه:

– هذا الكلب .. دهس فتاة صغيرة.

– وأين هي ؟

– نقلت إلى المستشفى.

وازداد الجو حرارة وضجيجاً وصراخاً، وتناهى إلى أسماعه صوت رجل قريب منه يقول في ضعف الشيخوخة:

– حسبي الله ونعم الوكيل.. إن أمثاله لا يبالون.

وانبرت امرأة في ثياب سوداء تحاول أن تحتفظ بعباءتها فوق رأسها :

– بطروهم .. ولم يبق إلا أن يقتلونا وأولادنا.

امرأة أخرى كانت تولول وتشد رأسها.. يبدو أن طفلتها كانت الضحية.

الرجل لا زال بين أيديهم ومزيد من الضرب ينهال على رأسه ووجهه وصدره.

– اضربوه حتى يتأدب .. ولد القحبة.

كان الصوت لرجل عاري الصدر يرتدي إزاراً ويده فيها شيء من بقايا الغداء.

– بل سنقتله.. اللعنة عليهم جميعاً.

– يا جماعة الخير.. خذوه إلى الشرطة.

– لن ينفع معه إلا السوط.

– اطرحوه أرضاً.. واضربوه حتى يموت .

وحين كان الرجل الأجنبي منطرحاً والدم يسيل من أنفه، كانت المرأة الشقراء ترتعد خوفاً وتزداد مساحة لون أصفر في فستانها.

امرأة صرخت:

– الكافر.. اقتلوه.. كما قتل طفلة منا.

امرأة أخرى :

– كل شيء تحقق لهم هنا .. ونحن ..

قاطعها رجل :

– وهل في هذا شك.

شقّ طريقه إلى حيث انطرح الرجل، فما كاد يلمحه حتى تشبث به صارخاً بألم:

– بليز .. آي.. آه.

كان العرق قد حفر في عينيه اللتين راحتا تحرقانه ويتألم منهما ..

شعر بالغصة ذاتها تتكور مرة أخرى في داخله وتنتفخ لتنفجر ألماً وغضباً ساخناً…

“مات النخل يا ولد .. والأرض عطشانه”.

قال لهم :

– دعوه لي .. سوف لن يرى غده.

أطبق بيديه على عنق الرجل وراح يضغط حتى احمرت عيناه، والرجل ما زال يقاوم.

– اقتله .. لست منا إن لم تفعل.

لم يعد يشعر إلا بحرمانه يكبر.. وبقهره اليومي الذي اعتاده قد ملأ جوانب نفسه، فراح يضغط بكل قواه حتى اقتلعته أيادٍ.. حين التفت إلى الوراء.. وجد أربعة من رجال الشرطة.. قال وقد أرخى يديه عن عنق الرجل:

– قد جاءتك الرحمة .. كما يجيئون إليك بها دائماً.

وحين كان يجلس في سيارة الشرطة شعر باطمئنان وراحة لما فعله، ونسي جوعه .. وراحت عيناه تنزلقان مع الشارع الأسود.

قال له الضابط في المركز :

– المفروض أن تكون رجلاً متعلماً.. وأن تعرف أن القانون سيعاقب كل واحد .. فلماذا أردت قتله؟

– ….

– ليس عندك جواب .. أليس كذلك؟

ردد في نفسه :

– القانون .. القانون ..

ثم بلع ريقه كابحاً رغبة داهمته في أن يتقيأ.

– سوف نضطر لإيقافك.. حتى يأتي من يكفلك.

– ..

في زنزانة التوقيف.. استلقى على ظهره وبصره متعلق بالسقف، وتذكر أمه وأباه وثالثهما الفقر الممتد عبر الزمن الراحل والزمن المقيم. وحين حلّ الليل وشمل الظلام المكان شعر بالتعب والإنهاك، وقبل أن يغمض عينيه لينام كان يردد  :

-قد بدأت الجولة الأولى.

عطــش النخيــل