الجدار

الجــــدار

ظل الطائر عمراً وهو معلق بين الأرض والسماء.. عطشان يرى البحار تحته، كلما يقترب ليشرب تلسعه الشمس، فيرف بجناحيه محلقاً وطاوياً تحتهما عذاباته الصامتة و .. . النازفة.

***

اسمها ليلى .. قارة مزروعة بالرياحين، أو هكذا حسبها حين رآها وخفق، فوجهها مغرق في العذوبة والحزن، وشعرها ظلال مفروشة لكل المعذبين.

استهوته القارة فقرر أن يسقط فوقها.

***

في أيام الحب الأولى، كان يأخذ وجهها بين راحتيه ويعتصره، ثم يقبّل مسامه المفتوحة والمغلقة. كانت تتبدى له رغبة ملحة في أن يلعق شفاهها السمر حتى الغيبوبة أو .. الموت.

عندها أدرك أن الحب يتوالد في صدره مثل الطوفان.

***

ابنة الوطن.. كانت حلماً للطائر المحترق في عذابه، ولما صار الحلم حقيقة، أصبحت الحقيقة تملؤها المرارة.

***

اكتشف أن القارة التي بدت على جسدها الرياحين يمتلئ جوفها بالألم.. بالعذاب .. بالقسوة. لقد ابتدأ مشوار الخيبة والعواطف المهشمة.

***

عمرها 18 سنة .. مطلقة .

تبدو المسألة عادية في مجتمع وثني. قالت له ووجهها يتقاطر بكاء وخلف عينيها يربض ذعر:

– حين كنت أنظر إلى العالم في الخارج، أراه متوحشاً فاقداً للحنان  وبالغ القسوة. كنت وحيدة أرضع آلامي الشرسة. لقد صلبت طويلاً فوق محطات الصمت و.. العيب.

عندما تفجرت عيناها كان الطائر يزداد التصاقاً بها. 

***

ليلى .. هذا الوجه المتكون من طين الوطن.. من رمال صحرائه وملح بحره، كانت وحيدة أمها، وكانت تلهث خلف همومها الصغيرة، ومتاعبها: الجنسية، الشؤون الاجتماعية، لجنة السكن، لجنة القروض، وقائمة أخرى من لجان الزيف، بينما عيناها ترصدان الإحصاءات وأرقام الاعتمادات والمال المتزايدة في الصحف فتزداد بؤساً ويزداد وجهها توهجاً بالإصرار.

***

لم تكن تعلم أن الطائر مثخن بالجراح.. ويوماً انطوى الطائر قرب جدار متهدم محموماً باليأس.

حصيلة اللقاء جدول يفيض بالعذاب ليصب في قلبيهما.

***

للطائر هموم حملها في صدره، لم يتصور أن الأرض التي استقبلته تئن هي الأخرى. كان قد تصور أن بإمكانه أن يدفن فيها ركاماً هائلاً من الوحشة والحرمان الذي يتوجع منه.

قرر أن يحترق، فازداد إصراراً على الالتصاق بجسد الأرض.

صار الهم المشترك هو البحث عن مأوى أخير للكرامة و… الحرية.

***

– يتكلم الناس عنها كثيراً.

– ماذا يقولون؟

– أغلب الكلام بالسوء.

لم يكن صديقه يعلم أن المسالة هي : أن نحب أو لا نحب، فقد كان هو أيضاً مما يعبدون الوثن.

عاد يسأله :

– هل تحبها ؟

لم يسمع جواباً، لكن حين نظر إلى عيني الطائر وجد فيهما فرحاً يتراقص وخلفة جمرة تتقد.

***

انقطعت عنه زمناً فاستبد به الحزن من جديد. هل يمكن أن تنسحب القارة وقد حطت عليها قدماه وارتاحتا من السفر؟

وقف على بابها مهموماً وقلبه يتدفق بالنداء. حين ارتعشت أصابعه فوق الجرس انشق الباب عن وجهها الباكي:

– لا أستطيع .. كلام الناس صار لهيباً.. أرجو المعذرة.. أحبك.

سقط وجهه . غرقت عيناه. اجتاحه بكاء مع صوت الباب ينغلق.

في عشه لم يجد أثراً منها باستثناء ذكرى طائشة و .. مجنونة : ورقة “كلينكس” كانت قد مسحت بها دمعاً وانزلقت منها لتبقى مرمية تحت السرير.

احتضنها، واحتضن ظهره الجدار. قد منحته الورقة قوة كاد يفتقدها . فجأة دهمته رغبة في التدمير، فقرر عدم الطيران هذه المرة.

الجــــدار