عبد الحميد أحمد

المخدرات دولة ظل

سيحظى داك، وهو كلب أمريكي محترم، وبطل قومي، بجنازة مهيبة تليق بمقامه، وبالإنجازات التي حققها طوال خدمته في مكافحة المخدرات. فهو تفوق على العديد من رجال الشرطة العاملين في إدارة مكافحة المخدرات، ونجح خلال سنوات عمله على الحدود الأمريكية المكسيكية في اكتشاف مخدرات فاقت قيمتها 500 مليون درهم، وصار لذلك هدفاً لزعماء المهربين وعصابات الكيف في أمريكا اللاتينية، فخصصوا مكافأة كبرى لمن يتمكن من قتل داك، الذي مات أخيراً مسموماً.

ونتوقع أن تشارك كلاب الأمة الأمريكية في جنازة بطلها القومي، بالنباح ساعة كاملة، وعلى الهواء مباشرة وعلى شاشات كبريات التلفزيونات، حداداً عليه، فهو على الأقل يستحق مثل هذا التكريم، لأنه أفضل ألف مرة من كلب دیانا کلینتون أو قطة تشيلسي کلینتون، والمهم في الأمر أن تعرف العصابات المجرمة أن دمه لم يذهب هدراً، وأن وراءه رجالاً، وأن المعركة ضدهم لم تنته، ومستمرة حتى آخر كلب.

وقبل داك هذا، خسرت الشرطة الأمريكية، التي تنظم عمليات مكافحة في الولايات المتحدة، كما في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، عقر دار مروجي المخدرات، العديد من رجالها قتلاً، فهذه العصابات التي يشكل بعضها بعد أن كبرت وصار لها زعماء وشبكات وأموال وجيوش وأسلحة وبنوك وطائرات، دولاً داخل دولها، وصار بعضها أقوى حتى من الدولة نفسها، العاجزة عن صدها وضربها والتخلص من جرائمها.

واليوم ترتبط جرائم المخدرات وتمتزج بجرائم أخرى، كالقتل والإفساد والرشوة وشراء الذمم والنفوذ، وتخريب حتى الحياة السياسية بالوصول والسيطرة على مراكز مهمة فيها، بما في ذلك الوزراء وكبار المدراء وكبار ضباط الجيش والشرطة، في دول أمريكا اللاتينية، واستطاعت هذه العصابات أن تمد نفوذها حتى إلى داخل أمريكا نفسها، مما يصعب مهمة مكافحتها وتطهير الولايات منها.

لذلك، فإن على دولنا، التي ابتليت مؤخراً بآفة المخدرات، أن تضرب مبكراً بيد من فولاذ، لأن أي تساهل في التعامل مع عصابات المخدرات ومروجيها، إنما يعني تركها لكي تكبر وتنمو، وتزداد استشراء في نسيج المجتمع، مما يجعل مهمة استئصالها لاحقاً صعبة إلى درجة المستحيل، كما هو الأمر حالياً في دول أمریکا اللاتينية.

وعادة ما تبدأ جرائم المخدرات، بالترويج واستمالة الشباب إلى التعاطي، ليتحول هؤلاء لاحقاً إلى مدمنين فمروجين، أي أعضاء من دون علمهم أحياناً في هذه العصابات، حتى إذا تمكنت منهم وهي تغريهم بالمال والحماية أيضاً، أصبح من المتعذر عليهم التوبة وترك المخدرات، لأن ثمة تهديدات بقتلهم أو بقتل أفراد من أسرهم تلاحقهم، فيفضلون عليها الاستمرار في شبكة المخدرات.

ثم تطور هذه العصابات عملها، لتشمل إفساد الذمم وشرائها، فتجد من بين رجالات المجتمع وكبار موظفيه ورجال أمنه، ممن يضعفون أمام إغراء المال والنفوذ والقوة، أو ممن يعانون من مشكلات مالية أو اجتماعية، هدفها وملاذها، فيسهل لها هؤلاء عملها ويتسترون عليها، أو يساهمون في نشاطها، فإذا وصلت في عملها وتخطيطها إلى هذا المستوى المتقدم، فإنها تكون دولة ظل بذاتها، لها اقتصادها ورجالها وجيشها السري.

وسابقاً، لم نكن نسمع عندنا إلا بإلقاء القبض على أجانب يحاولون تهريب المخدرات عبر المطارات والموانئ، أما اليوم، فإننا نسمع عن ضبط مخدرات في بيوت المواطنين، حيث يتعاطاها هؤلاء ويروجونها أيضاً، كما قرأنا قبل أيام عن ضبط شابين مواطنين في بيتهما ومعهما كميات مخدرة للترويج.

معنى ذلك، أن جريمة المخدرات تتقدم عندنا، حتى صارت في عقر دارنا وبيوتنا، وبأسرع ربما مما تقدر عليه أجهزة المكافحة، على الرغم من جهود هذه الأجهزة ونشاطها المحمود والمشهود له، وما تحذيرنا كل مرة من استشراء العصابات المجرمة في مجتمعنا، إلا على أمل ألا يكون عندنا بعد حين، وبأسرع مما نتوقع مجرمون عتاة من نوع بابلو اسکوبار، فيطالبنا بسجن خمسة نجوم، وبطعام خاص من باريس، وبحماية دولية من الأمم المتحدة.
المخدرات دولة ظل 17/6/1993