عبد الحميد أحمد

بذور على مقاعد الدراسة

  • التعقيب على موضوع «التعليم – الثقافة» الذي كتبه أحمد الريفي (وهو مدرس وشاعر) في عدد

سابق من هذا الملحق.

يكشف عن طراز من المدرسين السائدين في قطاع التربية والتعليم، ممن يعتبرون موضوع التعليم والتعلم أمراً ذاتياً يرجع إلى المتعلم نفسه، لا أمراً وطنياً مخططاً ومبرمجاً بشكل علمي.

ويتباكى أحمد الريفي على عصور «الكتاتيب» المزدهرة وتخريجها للعلماء ورموز النهضة العلمية والإبداع الثقافي، ويرى أن كل ذلك تحقق حين كان التلاميذ يتسابقون في إحضار حذاء أستاذهم حتى يلبسه (!) وليس لسبب آخر، ولم يقل عن أي عصر يتحدث وأي نهضة، ولعل الريفي يكون محقاً في تباكيه على «الكتاتيب» إذا كان يقصد القول إن مدارسنا تخلفت إلى ما هو أسوأ من «الكتاتيب»، لكن ذلك لا يبدو من حديثه الذي دافع فيه عن المناهج وطرائق التدريس الحالية، وألقى باللوم كله على «التربة والنزعة المادية وأحلام الثراء والترف… إلخ»، متجاهلاً أن هناك مجتمعات أخرى أكثر غنى ويسود فيها الترف والنزعة المادية أكثر من مجتمعاتنا، لكنها لم تتخلف من الناحية العلمية والثقافية، كمجتمعات أوروبا على سبيل المثال.

هكذا، فإن الزميل أحمد الريفي لا يرى أن في تخلف المناهج وسوئها وفي أساليب التدريس المنفرة والموجهة بعيداً عن روح المجتمع وتوجهاته أسباباً لتدهور المستوى الثقافي عامة والمسرحي والفني والأدبي خاصة، ولا يستطيع أن يرى الرابط بين الثقافة كبنية من بنى المجتمع وبين التعليم كجزء أساسي من هذه البنية يساهم في تطورها أو في انحدارها، عن طريق خلق بيئة ملائمة وممهدة لانتشار الثقافة وتقبلها من الناس والمجتمع أو في حدوث نقيض ذلك، بل يرى أن المسألة الثقافية أمر ذاتي محض يعود إلى الشخص نفسه واهتماماته وقناعاته – دون أن يشير إلى من يكوّن تلك الاهتمامات والقناعات، ولا ينظر إليها كمعطى اجتماعي وتربوي وأسلوب حياة مكتسب تكونه التربية والتعليم في البيت كما في المدرسة.

… سنوضح الأمر السابق بمثالين من واقع التجربة التعليمية الثقافية في الإمارات. المثال الأول يتعلق بالمسرح كشكل فني وثقافي له جمهوره ومتذوقوه وله عناصره المشتغلة فيه. حين كانت المدرسة في الإمارات في بداية السبعينات تهتم بالنشاط المسرحي وتحرص عليه، يدعمها في ذلك قسم للمسرح في الوزارة فيه خبرات مسرحية عالية المستوى كالمرسي أبو العباس ويسري ندا وغيرهما بدأ هذا الفن يبذر غرسه في المجتمع ويكوّن جمهوره المستقبلي من المدرسة أساساً، أما فيما بعد، وحين نظر قادة التربية والتعليم إلى المسرح كلهو وعبث وإلى الموسيقى كرقص ومجون وخلاعة وتم بناءً على ذلك إلغاء النشاط المسرحي أو تقليصه إلى حدود العدم، فإن الجمهور المسرحي تقلص ولم يتزايد ولم تستطع المدارس رفد المسرح المحلي بعنصر مسرحي واحد، أو بواحد من المشاهدين ومتذوقي هذا الفن الرفيع، ويشهد على تهميش النشاط المسرحي تهمیش قسم المسرح في الوزارة نفسها إلى حد تعطيله وتفريغه من دوره.

ومن السهولة ملاحظة أن غالبية المشتغلين في المسرح حالياً إنما هم من خريجي المدارس في السبعينات، كما أن الجمهور المسرحي يقتصر في غالبيته على خريجي تلك السنوات أيضاً، مما يعني أن المدرسة ساهمت في الحركة المسرحية سابقاً، الأمر الذي لا تفعله حالياً، إن لم تكن تساهم في عرقلته وتأخره الآن.

وعلى هذا يمكن قياس الموسيقى والرسم والشعر وبقية الإبداعات الفكرية والثقافية.

  • على حال المسرح والموسيقى وجمهورهما – وإنما على حال المدرسة العاجزة عن المساهمة في رفد الحياة الثقافية بالكفاءات وبالجمهور أيضاً.

المثال الثاني يعطي صورة معاكسة للمثال الأول وهو يتعلق بالرياضة ويؤيد ما ذهبنا إليه في علاقة التعليم بالثقافة، ففي الوقت الذي تم فيه تقليص وإلغاء الموسيقى والمسرح والرسم وكافة النشاطات الإبداعية العلمية منها والثقافية من مدارسنا، ظل النشاط الرياضي يحظى بالاهتمام السابق نفسه إن لم يكن قد تزايد فعلاً، وأمكن لهذا النشاط المدرسي الرياضي أن يرفد الساحة الرياضية بالرياضيين وبالجمهور على السواء، لتحظى من ثم الرياضة بالوجود الفعلي والكبير في المجتمع والمدعوم من جماهير غفيرة على حساب الثقافة والعلم اللذين أصابهما خلل واللذين يتباكى عليهما الآن مدرس وشاعر مثل أحمد الريفي، دون أن يعرف السبب الحقيقي، أو يحاول ذلك.

ويحق للمرء أن يتساءل بعد هذا: لماذا حدث ما حدث؟ لماذا كانت الثقافة والإبداع والابتكار والعلم والفن أول المستهدفين والضحايا وأول نتائج تلك المقدمات؟ إذا شئنا عدم إرجاع السبب إلى التوجيه المقصود الذي مارسته الوزارة في عهد قيادتها السابقة، فإنه من الطبيعي إلقاء اللوم والأسباب على المناهج وأساليب التدريس والسياسة والتربية وعلى الخلل الذي شابها مقصوداً كان أم غير مقصود، فالأمر سيان ما دامت النتيجة واحدة.

أن تلقي باللوم نتيجة هذا الخطأ على البيئة غير الملائمة وعلى تربة غير مستعدة للحرث والإنبات ولا مهيأة للنماء والعطاء.

أخيراً، فإنه لا خلاف في أننا إذا سقينا بذورنا ماءً مالحاً يكون الجني مالحاً ومراً في موسم الحصاد، فمثلما نبذر نحصد، ومثلما نؤسس يكون مستقبلنا، ومستقبلنا، ومستقبلنا أولئك «البذور» على مقاعد الدراسة الآن، وعلينا أن نختار الماء الذي به نرويهم، لنحصد في المستقبل ثماراً تساهم في رقي الوطن وتقدمه العلمي والثقافي والحضاري.

بذور على مقاعد الدراسة