- «اقتراحي هو أن يكتب الجميع، كل من يريد، الخوض في هذا البحر الجميل عن تجربته الإبداعية، عن شكل كتابته هو، ثم تصوره الخاص هو عن مسألة الكتابة». ويقدم هذا الاقتراح، وهو اقتراح عملي الشاعر يوسف أبو لوز في نصه المعنون «لتستمر الكتابة»، وذلك لأن، الإحاطة بمعنى الكتابة صعبة ومستحيلة، على اعتبار أن لحظة الكتابة هي لحظة الإبداع.
- السؤال: «ما هي الكتابة»، هو الذي أطلقناه في البدء ليكون محور نقاشاتنا، لنذهب في الكتابة ومعها إلى علاقات جدلية بين كائنات العمق فيها من حيث هي تشييد وعمل معقد وصعب، ومعها من حيث هي عديدة منها اللغة ومنها الأسلوب ومنها الكاتب والقارئ، والمجتمع والتاريخ… إلخ. يوسف أبو لوز ولأنه يفهم الكتابة بهذا العمق، فإنه يقدم رؤيته الخاصة كمبدع لمسألة الكتابة في نص أدبي لا يخلو من الجرأة والعمق والإحاطة، وإن كان باعترافه يبدو مفككاً، لأن «التفكك سمة عصرنا».
وقبلنا عجز الفلاسفة والمنظرون والمفكرون والناقدون عن الوصول إلى تعريف محدد ونهائي للكتابة، لكنهم قدموا إضافات على الطريق إلى الوصول لها وإلقاء القبض عليها كل من منطلقاته الفكرية والأيديولوجية والأرضية التي يقف عليها وتشكله وتحدد بالتالي رؤيته وفهمه كما تحدد لغته ومصطلحاته، ولكن كان يبدو في كل مرة أن الكتابة كالهواء لا يمكن أن تضمها راحة اليد.
ولأن هذا البحث في الكتابة هو الأصعب، هو المحفوف بالمخاطر والعناء والتعب، فإنه هو الذي يجب أن نسعى إليه كي تفجر عبره الأسئلة المضنية التي تضرب رؤوسنا وتصيبنا بالدوار، لتحاول مرة، أو مرات أن نفكر بعمق وبجدية، ولنستحث عقولنا وأدمغتنا كي تعمل وتبدع بدلاً من أن تتلقى فقط، وأخيراً كي نبحث عن «الحقيقة»، وما الكتابة في وجه من وجوهها إلا البحث في الحقيقة وعنها!
ولهذا، فإنه لم يكن مطلوباً أن ندور على حواف «الكتابة» كالبغال يشدنا إليها الرسن، نردد مقولات إنشائية دون تفكير، وإنما أن نوغل صوبها وأن نحاول اختراقها أو على الأقل أن نكون قريبين منها، وهكذا فإنه علينا مرة أخرى أن نستبدل السؤال: «لماذا لا تكتبون» بـ «ما هي الكتابة»، ليس من قبيل التعجيز ورفع الأعلام البيضاء، ولكن كدعوة إلى البحث والتقصي والتفكير والمغامرة والتجاوز، وصولاً إلى التأسيس على المستوى الفردي والجماعي في آن واحد.
ومنه فإن السؤال: «لماذا لا تكتبون» وأجوبته المعروفة: «لأننا محبطون – لأننا لا نقرأ – لأننا مهزومون نفتقد الأمان والحرية – لا وقت لدينا.. إلخ». يتحول إلى مجراه العميق بحثاً في اللغة كمعطى اجتماعي تاريخي وفى الأسلوب كخصوصية للكاتب وفي الكتابة أخيراً في جوهرها ووظيفتها وشكلها ومضمونها ككل واحد، كجسد واحد، ككتلة واحدة.
نص الأخ يوسف أبو لوز حاول وبجهد كبير وخاص أن يعطي فهماً لـ «الكتابة»، رغم أنه لا يفعل، لا ينجح وذلك أمر طبيعي، ولكن يكفي أنه حاول وبمشقة وتعب.
يقيم أبو لوز رؤيته لـ «الكتابة» على أربعة مرتكزات أو من أربعة منظورات: الأول نفسي تحليلي: «ليس مصادفة أن أقول «يتزوج الكتابة» فثمة علاقة لا تخلو من حس في عملية الكتابة». الثاني من منظور وظيفي تاريخي: «الكتابة وعاء الحضارات». الثالث من فهم فوضوي عابث: «نعم الكتابة لعب، عبث بالحجارة والحصى والغيم والمطر، ولكنه عبث مر أو جنون واعٍ أو ممارسة الحياة داخل اللغة، الكاتب نفسه لغة داخل اللغة». الرابع من منظور اجتماعي: «ثمة كتّاب يمارسون فعل الكتابة في الحياة على نحو أفضل. الفلاح يحرث الأرض، أي يكتب (….) يأتي الكاتب المتخصص ويسرق لغاتهم تلك، يحولها من أدوات حراثة وعرق وماشية وحجارة إلى لغة (….) ليست الكتابة ترفاً ولا هواية، إنها قضية الكاتب، هاجسه وعمله … إلخ».
وهذا الفهم، ربما يخص كثيراً من الكتّاب، نظراً لأنه في داخل الكاتب كثيراً ما تتقاطع إلى حد التناقض والصدام كل هذه الرؤى وهذه الاستنتاجات، بل في لحظة تكون كلها مجتمعة، وذلك لأن فهم تعريف ومعنى محدد للكتابة أمر مستحيل وصعب، ويكفي أبو لوز أنه لامس الموضوع في عمقه مؤكداً أخيراً على فعل الكتابة، بعيداً عن الجدل حولها، يقول: «لتستمر الكتابة».
في مقابل هذا التناول الجاد يأتي كلام الأخ إبراهيم بوملحة حول الموضوع ذاته والذي يرد فيه على ما سبق أن قلته حول الكتابة والقراءة، وقد نشر موضوعه في ملحق جريدة «الخليج»، وكان موضوعاً إنشائياً كرر فيه وردد مقولات الدكتور عبد الخالق عبدالله نفسها دون أن يضيف جديداً، لا إلى الفكرة ولا إلى محاولة فهم القراءة ولا الكتابة، والرد على مقولاته المكررة يتضمنه الموضوع نفسه الذي تناولت فيه العلاقة بين القراءة كعمل إبداعي والكتابة كعمل إبداعي أيضاً على مدى يومين متتاليين في جريدة «الاتحاد».
أما أبو لوز فقد قارب السؤال: «ما هي الكتابة» بإجابات خاصة به، بشهادة تتضمن رؤيته لمسألة
الكتابة، فأضاف وفتح مجالاً واسعاً للتفكير والتأمل والغوص إلى الأعماق، وحبذا لو أن إبراهيم بوملحة فعل الشيء نفسه، كتب مثلاً عن فهمه الخاص للكتابة وقال لنا: «لماذا يكتب». وعلى هذا الأسلوب يكتب الآخرون ليجيبوا بالتحديد عن السؤال التالي:
«ما هي الكتابة، ولماذا نكتب؟»
فهل نفعل ذلك ونقترب من العمق أم نظل ندور على الحافة؟
على الحافة وفي العمق