عبد الحميد أحمد

نقد «مكارثي»

  • بعد شيوع موجات مما اتفق على تسميته بـ «النقد المزاجي» و«النقد الاعتباطي»، و«النقد الانطباعي»، يبدو أن ثمة موجة خطيرة من النقد قادمة إلى الساحة الأدبية العربية، وهي موجة خطيرة ومدمرة لأنها تلبس لباس المنطق والعلم والتحليل، ولكنها تقود النصوص ومؤلفيها إلى ساحة الرجم وإلى مقصلة الإعدام بناءً على مجموعة من الأحكام والاستنتاجات المبنية على موقف فكري وسیاسي متخلف، لا علاقة له بالنقد ولا بروح العصر.

وأهم ما يميز هذا الصنف من النقد هو جسارته على تقويل النص ما لم يقله، وعلى جره وسحبه إلى خانة النص المدان الخائن المدسوس المتآمر على التاريخ والشخصية العربية، وذلك لاستخدام أدوات وأساليب في القراءة والتحليل لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالأدوات النقدية الحقيقية.

وبناءً على هذا النقد، يمكن مثلاً إدانة كل الأدب العربي، ورميه في أفران الإعدام، ليس لأنه أدب سيئ ورديء بل لأنه أدب ضد العرب والمسلمين، بناءً على فتاوى صادرة من نقاد هذا النوع من النقد، الذي لا تصح عليه إلا تسميات من نوع «النقد المكارثي»، أو «نقد محاكم التفتيش» أو في أحسن الأحوال «النقد

المباحثي».

وفي منظار هذا النقد يصبح محمود درویش مجرد ملحد وكافر، ويصير محمد شكري مجرد داعية للرذيلة والانحراف… وهكذا يمكن تصنيف الأدباء وتوزيع قسائم الصكوك عليهم، ووضع كل واحد منهم في خانة خاصة به من الاتهام.

هذا النقد، قرأناه بين فترة وأخرى في بعض المنابر الصحفية، أو سمعناه في بعض المحاضرات والندوات، ولم يكن يثير أكثر من الامتعاض لدقائق، لكونه قريب الشبه من الأنواع النقدية الأخرى المثيرة للاستغراب كالمزاجية والاعتباطية مثلاً، والتي سرعان ما يتلاشى أي أثر لها، لكن أن يتحول هذا النقد «المكارثي» إلى حركة النشر وإلى نشاط التأليف فتضمه كتب ويروج له مروجون وناشرون، فهنا تكمن خطورته، ليس على الأدباء والكتّاب وحدهم، بل على مجمل الثقافة العربية وتجلياتها الفكرية والإبداعية، خاصة وهي تناضل من أجل ديمقراطيتها وحريتها، ومن أجل نهضة الشعب العربي وتقدمه وخيره.

آخر الأنباء حول هذا النقد الخطير نشرته صحيفة «الخليج» في عددها الصادر يوم الخميس 26/5/ 1988، على شكل مادة ثقافية من بيروت تتضمن فصلاً من فصول كتاب حديث يصدر في بيروت للمؤلف اللبناني المعروف (كما يقول الموضوع) هاني فحص، وعنوان الكتاب هو: «التهويد الثقافي… المرأة مثالاً» وقد اشتمل الموضوع بشكل سافر على المواصفات التي ذهبنا إليها والتي يمتاز بها هذا النقد بجدارة لا يضاهيها أي نقد آخر، وإذا كانت الصفحة الثقافية في الزميلة «الخليج» قد أحسنت صنعاً بنشرها مادة كهذه ليطلع عليها جمهور القراء والأدباء والمثقفين إلا أنها لا تسلم من العتاب لإغفالها التعليق على الموضوع ونشره كما ورد لها، على ما تضمنه من آراء وأحكام خطرة ضد الكاتبين العربيين الطيب صالح وحنا مينة.

ونسوق للتدليل على ما نقصده حول الموضوع المذكور كعينة ونموذج للنقد «المكارثي» بعض الأحكام الواردة فيه وهي تكفي لإيضاح طبيعة وهوية هذا النقد.

يقول هاني فحص صاحب الكتاب إن «المصالحة بين الحلال والحرام التي يقوم بها الطيب صالح تتكرر مظاهرها ومظاهراتها من أول الرواية إلى آخرها لتحاول أن تثبت قشرية الدين وعادية محرماته، الجنس والخمر خاصة، ويحاول المؤلف المذكور تقويل نصوص حنا مينة والطيب صالح وربطها بالتأثيرات التوراتية واتهام الكاتبين بالقصدية في ذلك، فالطيب صالح ولأنه «يمين فهو يذهب في اتجاه صوفي غربي لا يتطلب زهداً أو رياضة بل غرقاً في الإشباع، يبرر ذلك بوحدة المنبع، منبع الرغبات، وكأنه صوت يأتي من خلف نشيد الإنشاد، بينما صوت حنا مينة كأنه يأتي من سفر الخروج، من حكاية دينة بنت يعقوب وتبرير الرذيلة». وعنده الطيب صالح «يستعيد إبراهيم التوراة ولكن مع تطور حضاري بالغ وعميق. هو المثل الذي تكمن في عمق الطيب رغبة بدفع السودان نحوه حيث التوازن والقبول وانعدام الشعور بالحرام»، أما حنا مينة عند المؤلف المذكور فهو «الروائي الشيوعي السوري الذي يأخذ الجنس في أدبه موقعاً مميزاً كماً وكيفاً»، و«الهاجس السياسي لديه هو المعلن بحسب شيوعيته وإلحاحه عليها»، و«حنا مينة ماركسي العقيدة شيوعي الهموم والقيم، ولكن خارطته هي نفس الخارطة. وعندما يضطر الشيوعي إلى السياسة فإنه يضيفها إضافة أو يدسها دساً ويبقى الجنس كسلوك يمكن من خلاله أن نحاكي الغرب ونطبق ثقافتنا الغربية»، ويلتقي الطيب صالح وحنا مينة وغيرهما معهما على نقطة هي المشترك وهي العلامة (الحرام)، يصالحون بين الحلال والحرام، و«نحن مدعوون شيوعياً. إلى التجرؤ على الناموس، إلى إلغاء الحرام» …. إلخ، إلخ، إلخ.

وهكذا يصل الناقد المذكور إلى جملة من الأحكام الخطرة انطلاقاً من موقفه الفكري السياسي ومن تقويله النصوص ما لم تقله، وتعسفه المعلن ضدها، وكيل الاتهامات المجانية لكاتبيها، وهي اتهامات أخطرها الترويج لقيم وأفكار توراتية قد تؤدي إلى ضم كل من الطيب صالح وحنا مينة إلى عضوية المحافل الماسونية وأندية الروتاري، ومن ثم إهدار دمهما كما أهدرت دماء كتّاب ومفكرين آخرين من قبل، أمثال حسين مروة ومهدي عامل وصبحي الصالح وغيرهم.

  • الغريب، أن هذا النقد المرعب والمخيف والإرهابي يأتي هذه المرة من بيروت التي كانت واحة فكر وحرية وإبداع، ويبدو أن البعض يخطط لتحويلها إلى معقل للردة والتخلف والظلام لاقتحام ساحة الثقافة بعد اقتحام السياسة والقتال العسكري….

… فاحذروا إنها محاكم التفتيش، أطلت بواكيرها ونذرها.

نقد «مكارثي»