عبد الحميد أحمد

سوريا ليست غبية… وأميركا ليست ذكية

من السخف الاعتقاد أن سوريا وراء اغتيال رفيق الحريري، في الانفجار الضخم المدبر بطريقة احترافية عالية، ومن السخف أيضاً الاعتقاد أن سوريا ليست وراء الاغتيال. ما يبرر الاعتقاد الأول هو أن سوريا المتضرر الأكبر من هذا الاغتيال، حيث إنها تحت الضغط الأميركي والأضواء العالمية منذ فترة، فالاغتيال يضاعف الضغط عليها أكثر إلى درجة يمكن استغلاله لعزلها تماماً بل وضربها عسكرياً أيضاً. والاعتقاد الثاني يبرره سجل سوريا في لبنان، وهيمنتها على مقادير الحياة فيها، ما جعل السخط الشعبي اللبناني ضدها يتزايد في السنوات الأخيرة، إلى حد المطالبة علناً الآن من قبل أطياف لبنانية متعددة بضرورة انسحابها فوراً، وترك لبنان للبنانيين.
غير أن اغتيال رفيق الحريري في هذه الظروف الملتهبة يقدم ذريعة لأميركا ولغيرها لاتخاذ تدابير قاسية ضد سوريا، وها هي الآلة الإعلامية الأميركية، ومن يسير في ركابها، تدور الآن لاتهام سوريا ولاستغلال الاغتيال لتنفيذ ضرب سوريا وتنفيذ أية أجندة سرية ضدها، حتى قبل أن تنتهي التحقيقات ومعرفة الجاني الفعلي. فالحدث يخدم هذه الأجندة، وليست هناك فرصة أمثل لتنفيذ المخططات ضد سوريا والتدخل في شؤونها الداخلية.
لذلك يخلط كاتب أميركي مثل “توماس فريدمان”، الأحداث بعضها ببعض، ليبرر الضغط على سوريا، ضمن الآلة الإعلامية الشيطانية إياها، ويشير إلى سوابق للنظام السوري من أعمال القتل والاغتيال والإبادة، فيستخرج مثلاً أحداث حماه، التي قامت فيها السلطات السورية بحملة قمع وحشي ضد المدينة وضد الإسلاميين المتشددين فيها، ويسمي ما جرى بـ”قانون حماة” وعلى شاكلته يبني مصطلحاً هو “قانون لبنان” دون أن يتوقف بين الحادثين لمزيد من التفكير والتحليل. فالحدث الأول شأن داخلي، صمتت إزاءه وقتها الولايات المتحدة لأنه يستهدف الإسلاميين، الذين لو لم تقم سوريا بقمعهم، لكانوا اليوم في عداد الانتحاريين الذين يستهدفون أول ما يستهدفون مصالح الولايات المتحدة نفسها. أما الحدث الثاني، والذي لم ينجلِ دخانه بعد، فخارجي في دولة أخرى، وفي ظروف مختلفة واستهدف رجلاً هو في الحقيقة، ليس على خلاف كبير مع سوريا، وكان مدعوماً منها على الدوام، وعلى صلة كبيرة شخصية وسياسية بأركان الحكم في دمشق.
هذا الاستغلال البشع لدم الحريري سوف يتزايد، ما سيشير، عربياً على الأقل، بأصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة نفسها وعميلتها في المنطقة إسرائيل، ذلك لأن الاغتيال في هذه الظروف وبالطريقة التي تم بها، إنما يخدم أكثر المصالح الأميركية ومخططات واشنطن، لضرب سوريا وتأديبها، لمواقفها المعارضة للأجندة الأميركية في كل من فلسطين والعراق، وتالياً في لبنان ولصلتها الحميمة بإيران واتفاقها معها على رفض سياسات الهيمنة الأميركية.
وهكذا فإن الآلة الإعلامية الأميركية ومن يسير في ركبها من كتّاب ومفكرين وصحفيين كـ”توماس فريدمان”، تريد إلصاق التهمة مبكراً بسوريا، وبوجودها العسكري في لبنان. ينسون في حمأة الأحداث أنه إذا كانت سوريا ليست منزهة عن القتل فإن الولايات المتحدة نفسها ليست منزهة عن القتل أيضاً، وليس من ضرورة بتذكير هؤلاء بسجل أميركا في دول العالم المختلفة، في أميركا اللاتينية مثلاً، ودعمها للديكتاتوريات وقيامها بأعمال قتل سرية ضد معارضين لهذه الديكتاتوريات وقمع حركات شعبية، حين اقتضت مصالحها الاصطفاف مع هذه الديكتاتوريات ضد حركات ديمقراطية وشعبية، وقيامها بانقلابات سافرة لصالح حكومات تخدمها. فالسجل الحافل لا نعتقد أن مثل هؤلاء الكتاب يجهلونه وإن قرروا، كعادتهم، تجاهله لتحقيق أهداف الحملة الإعلامية التي تسبق عادةً الحملة العسكرية، كما هو معروف في السياسة الأميركية، على النحو الذي رأيناه قد حدث في العراق.
وسوريا ليست منزهة عن الأخطاء، هذا ما نعرفه جيداً، في العالم العربي، فاستمرار وجودها في لبنان بعد استيفاء أهداف هذا الوجود من تنفيذ لاتفاق الطائف، خطأ، وسوف تدفع ثمن هذا الخطأ اليوم، وسجلها مع حقوق الإنسان خطأ آخر، وعدم تقدمها في إشاعة أجواء الحرية والديمقراطية خطأ ثالث، غير أن استغلال هذه الأخطاء من قوى عالمية، كالولايات المتحدة، على النحو الذي نراه اليوم، إنما يكشف مرة أخرى السياسة المزدوجة لواشنطن، حين يتعلق الأمر برفض المشاريع الأميركية والأوامر الأميركية، وحين يتعلق الأمر بإسرائيل وتأمين مصالحها.
هل المطلوب من سوريا أن تنصاع لكل هذه الأجندة لكي ترضى عنها الولايات المتحدة، مثلما هو الحال مع النظام الليبي، الذي قرر الاتجاه غرباً بسرعة الصاروخ، لكي يحمي وجوده، حتى لم نعد نسمع من الغرب الذي تقاطر على طرابلس لعقد الصفقات كلمة واحدة عن حقوق الإنسان، وإقامة المجتمع المدني مع نسيان كامل لتاريخ هذا النظام وتجاهله؟
وإذا كانت سوريا ليست مبرأة تماماً من الأخطاء، وليست غبية كذلك لترتكب جريمة اغتيال الحريري فتقدم لأعدائها مبررات ضربها، فالولايات المتحدة ليست مبرأة هي أيضاً من الأخطاء.

عبد الحميد أحمد
جريدة الاتحاد

الإثنين 21 فبراير 2005