عبد الحميد أحمد

سياسة التقشف

لولا أن الجن والشياطين ممسوكون في رمضان، لاعتقدت ان قارئة أبدت استعداداً نادراً للتقشف استجابة لما كتبناه، ليست من جنس البشر، ذلك لأننا حتى وقت قريب، كنا نعتقد مع القراء، ان مثل هذه الزوجة لا وجود لها سوى في الأساطير .

غير أن القارئة الكريمة أثبتت أنها ليست من الجن ولا من عالم الخرافة، بل من البشر القادرين على التضحية، فهي قالت أنها تستطيع ألا تشتري ذهباً لعام كامل، وألا تشتري فساتين جديدة أو تفصل ثياباً إلا مرتين في العام على العيدين، وأن مشترياتها الأخرى من الأحذية والعطور والاكسسوارات وغيرها يمكن ان تتقلص أيضا الى الحد الأدنى، فهل هناك مشاركة في سياسة التقشف بعد انهيار أسعار النفط أكثر من ذلك؟ كلا وبلا يا سيدتي، فالمبادرة التي تتفضلين بها تتفوق على كثير من المبادرات العربية في التنازل والتضحية للصالح العام وللقضايا الكبرى المعلقة، واذا كان من سعيد هناك بمثل هذه المرأة فهو بالتأكيد زوجها الأغر، الذي لابد أن يصلي لله ويشكر ويحمد ليل نهار عند اعلانها هذه المبادرة في وقت ما من رمضان، على هذه النعمة المتمثلة في مثل هذه الزوجة الصالحة الكادحة، باعتبار ان المرأة تتخلى عن كل شيء الا ذهبها وملبوساتها وأناقتها، فيكون تخليها عن هذه الأشياء ضرباً من الكفاح.

مقابل هذه الزوجة الكادحة هناك القارئ الكادح أيضا، الذي بادر بأن بالامكان التنازل عن المأكل ايضا في سبيل التقشف وترشيد الانفاق جريا على قرارات الحكومة ومساندة لها في مواجهة أعباء انخفاض أسعار النفط، فقرر كما يقول تخفيض الوجبات الثلاث اليومية الى وجبة واحدة فقط، هي الغداء خاصة ان لديه أولاداً الواحد منهم من وزن الفيل، ومن الصحة والعافية الى درجة أن خمس وجبات لا ثلاث، لا تكفيهم.

هذا القارئ يغامر فيما يبدو بقراراته تخفيض الوجبات اليومية، وصحيح انه سوف يكسب في نهاية المطاف عند تنفيذ خطته المعيشية الجديدة، صحة أولاده ورشاقتهم وعودتهم الى صنف الغزلان، الا ان ذلك لن يتم الا بعد ان تنهار صحته هو وتضمحل، اذا لم يكن من ضرب أولاده له بسبب الجوع، فعلى الأقل من شكاواهم المتواصلة ونقمهم عليه، ما يوتر أعصابه ويفقده الراحة، فننصحه بالعدول عن التطرف في التقشف، فالمطلوب هو الترشيد لا التقتير.

مع ذلك فهذا القارئ الذي يضحي على حساب غيره، ويعاقب الآخرين لانخفاض النفط ولا يعاقب نفسه، كأن يتخلى عن تدخين السجائر مثلا أو عن سيارته فيوفر ثمن بنزينها خاصة ان هذا لم ينخفض بعد حتى والاسعار العالمية للبترول في الحضيض، ليس الا نموذجا لبعض سياسات التقشف العربية من التي تبدأ حملة تقشفها على القاعدة، فتطالب شعوبها بالجوع، مساهمة منها في انجاح خطط التنمية الاقتصادية، حتى جاعت الشعوب فعلا، من دون ان تنجح تلك الخطط.

ونكتفي بذلك من حديث التقشف لنختم بالقارئ الذي يعتقد اننا نبالغ في تصوير آثار انخفاض أسعار النفط، ليذكرنا بالقول: انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، فنسأله بدورنا: كيف ننفق ما في الجيب اذا كان الجيب فارغاً؟

عبدالحميد أحمد

التاريخ: 11 يناير 1999