عبد الحميد أحمد

ضجر السياسة

حين يصيبك الصداع تمد يدك فوراً إلى البنادول والاسبرين وفي حالة الرشح والانفلونزا تلجأ إلى الفيكس والفيتامين سي، وأوراق شجرة الكينا، وإذا أصابك الفلس فالبنوك خير مسعف هذه الأيام، وهكذا فإن لكل علة تجد دواء، لكن ماذا تصنع إذا أصابك الضجر؟

الروائي جراهام جرين الذي مات مؤخراً دون أن يحظى بجائزة نوبل، سألوه مرة: ماذا تنتظر بعد كل هذه الشهرة والأعمال الروائية العالمية… هل تنتظر نوبل؟ فرد قائلاً إن الجائزة التي ينتظرها هي الموت! ولربما أجاب بتلك الإجابة لأنه كان ضجران، ورغم ذلك فقد وجدت لديه وصفة سحرية للضجر هي السياسة، فجراهام جرين يقول إن السياسيين وحدهم لا يعرفون هذا الداء.

تصوروا رجلاً مثل جيمس بيكر، الذي يحمل في حقيبته ملفات قضايا العالم، ويعمل على مدار الساعة، ويطير ويحل في اليوم الواحد أحياناً من وإلى أكثر من دولة، هل يمكن أن يصيبه الضجر؟

يبدو صحيحاً إذن أن السياسة تقتل الضجر، فالانشغال بها وبهمومها انشغال لا يتوقف ولا يترك فرصة لفراغ يمكن للضجر أن يتسلل منها وهذا الانشغال متى ما ابتدأ فإنه لا يتوقف ولا ينتهي حتى الحوارات السياسية لا مجال فيها لخاتمة ولاحظوا أنه إذا دخل اثنان في حوار سياسي جدي فإنهما لن يتوقفا أبداً إلا إذا تنازل أحدهما عن رأيه وهو نادراً ما يحصل أو يحسم أحدهما الحوار إما بعلقة ساخنة أو بكاتم صوت!

 وعندنا نحن العرب من القضايا المزمنة ما يصلح دواء للضجر، خذوا مثلاً قضية فلسطين التي مضى عليها قرابة ٤٥ عاماً استطاعت خلالها أن تتحول فعلاً إلى علاج دولي للضجر ووصفة جاهزة لقتل الفراغ السياسي، فإذا جد حدث في العالم مهما كان صغيراً انشغل به السياسيون وحين يهدأ رجعوا إلى فلسطين يبحثون وينقبون ويعيدون ويكررون بحثاً عن حل حتى راكمت هذه القضية من المفاهيم والمصطلحات والقرارات الدولية ما لم تراكمه قضية أخرى، ويكفي كمثال أن نسوق مفهوم المؤتمر الشائع هذه الأيام ونعدد مسمياته: مؤتمر دولي، لا، مؤتمر إقليمي، لا، مؤتمر إقليمي مصغر لا، مؤتمر إقليمي بقاعدة واسعة، لا، مؤتمر مبكر، حتى يصاب أي متابع بدوخة رأس!

ورغم أن قطار التسوية الأمريكي السريع الذي يحاول أن يشق طريقه حالياً مدفوعاً بقوة وقود عاصفة الصحراء لصاحبها حسن الذكر شوارزكوف إلا أن إسرائيل وحدها لا تصيبها دوخة رأس، فجوابها واضح وصريح حلوا عنا واتركونا لحالنا، بلا مؤتمر بلا بطيخ!

أقول السياسة دواء للضجر، لكن يبدو أن قضيتنا المركزية صارت تجلب لنا الضجر، ولهذا نريد الفكاك منها جميعاً، ولا نريد أن نتحدث عنها فضجر مع دوخة رأس لا يمكن احتمالهما معاً، ولهذا سأنصرف عنها غداً إلى الحديث عن لبنان الذي وجد علاجاً لعلته ولم يعد موضوع تسلية لطرد الضجر عند السياسيين كما كان من قبل.

من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.