عبد الحميد أحمد

يا ليل دانة

يا ليل دانة، ما أجملها!

وحيث يملأ الأفق اليوم بياض أشرعة تأتلق في ضياء الصباح، ستملأ رؤوسنا ذاكرة الأمس وسيضمخ عبق الماضي أنوفنا، أما أسماعنا فستطربها حد الدمع يا ليل دانة.

ونواخذتنا القدامى، أطال الله في أعمارهم هم وبحارتنا الأماجد سيكون اليوم نشوة تجري في عروقهم، وهم يبحرون في الزرقة من الصير قافلين إلى دبي، في سباق مبتكر يعيد للبحر رداءه الأزرق.

ويعيد للهولو واليامال نغمتهما العتيقة، بعد أن غادرتا البحر من زمن لتستقرا في أرشيف الإذاعة.

أما نحن فسباق اليوم ينشط فينا ذاكرة أصابها عطب النسيان وداء السرعة اللاهثة، التي لا مجال فيها لوقفة تلتقط الأنفاس وتلتقط الشظايا وتلتقط بقايا الصور! فمنذ أن مال السنبوك على جنبه على السيف وانهال رمل الشاطئ على الجالبوت إلى جانبه ونخر الصدأ مساميرهما وتداعت الألواح، غاب مشهد البحر ومعه تاريخ البحر ولم يتبق منهما إلا زغاريد ومواويل وأشعار ونهمات، ترن في أسماع زمان غريب وثمة حكايات وأقاصيص تسكن ذاكرة أصحاب البحر الذين يغالبون النعاس والنسيان بعيون مطفأة مرمدة من ملح البحر ورطوبة طحالبه.

لم يتبق شيء غير حكايات مبعثرة ومواويل نائية يقتفي أثرها باحثو التراث وترددها كاسيتات الإذاعة بغرابة تدهش شباب اليوم المنبت وأحياناً ببلاهة تثير السخط.

وأمس كان البحر يجلس بيني وبين صديق كويتي جاء به إلينا سباق اليوم ننبش في ذاكرته فأطل علينا محمد الفايز الذي تردد إذاعاتنا الخليجية ويردد أطفالنا ومغنونا أشعاره البحرية العميقة، فعرفت من الصديق أن الفايز مات!

متى مات الفايز، صاحب «مذكرات بحار» لا أحد يعرف حتى الصحيفة الكويتية الوحيدة التي كتبت عنه مقالاً لم تذكر يوم وفاته، أما الصديق فيعتقد أنه مات في زحمة «أم جنجال» لصاحبها مبتكر الانتصارات العربية على الجثث العربية.

ورغم ذلك عنى لي موت الفايز الذي يردد له أطفالنا: «يا جارتي سيعود بحاري المغامر يا جارتي سيعود من دنيا المخاطر» عنى لي موت نهام آخر، أو نهام أخير موت غواص وبحار من أولئك الذين رحلوا في البر والبحر، وبعضهم لم يترك لنا حتى عظامه، وتركوا على الأرض كل الحب، كل العطاء، وتاريخاً من العمل والصبر وكبرياء الإنسان.

وموت الفايز على خطى أصحاب البحر يليق بكبرياء الشاعر وكبرياء أصحاب البحر.

… رحلوا بلا تاريخ وفاة لكنهم سيعودون في ذاكرتنا، شلالات من نور وضياء ما بقي هذا الأزرق ممتداً أمام أعيننا.

وسنردد مع الفايز كلماته ونحن نرى اليوم أشرعة الأجداد تملأ بياض الذاكرة:

سلام على ذكريات السنين

تلوم كسرب حمام عبر

سلام على سفن العائدين

ونهامهم تحت ضوء القمر

… ولتصدح يا ليل دانة في أذن الزمان حتى الثمالة.

من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.